الأساس الشرعي لوجوب معرفة قواعد فهم القرآن و أمثلة تطبيقية لتوضيحها

بسم الله الرحمان الرحيم

24  رمضــان  1434  –  02/08/2013

بحث أعده الأستاذ الرحلي أحمد

من هيأة التدريس بالتعليم العالي بالدار البيضاء سابقا متقاعد.

العنوان: 910 شارع وادي سبو حي الوفاق الدار البيضاء.

الهاتف : 0668120774

الموقع بالانترنيت :www.errahliahmed.com

الموضوع : الأساس الشرعي لوجوب معرفة قواعد فهم القرآن و أمثلة تطبيقية لتوضيحها.

مقدمــة:

أنزل الله تعالى القرآن على رسوله محمد عليه و على كل الرسل صلاة الله و سلامه في بداية القرن السابع الميلادي و ذلك لتبليغه للناس كافة و ليلتزموا بأحكامه الشرعية و حدوده قولا و عملا سرا و علانية حتى الموت.

فواجب الالتزام بالقرآن الذي فرضه الله تعالى يوجب و يفرض فهمه على كل إنسان. لأن من لا يفهم القرآن ولا يعرف حدوده لا يمكنه الالتزام به. و واجب فهم القرآن لا يتحقق إلا بالإلمام بقواعد فهمه و معرفة علوم تفسيره. و ذلك ما سوف أبينه مستندا إلى الأدلة الشرعية في جوهر البحث. و سأعطي أمثلة تطبيقية من القرآن لتوضيح قواعد فهمه للناس. هذا البحث يكتسي أهمية بالغة لأن فهم و تدبر القرآن و استنباط الأحكام الشرعية من آياته صعب جدا و يتطلب مستوى مهما من إتقان اللغة العربية و قواعدها و معرفة دقيقة لقواعد فهم القرآن و علوم تفسيره. و قد تأكد في الواقع أن من يجهل قواعد فهم القرآن لا يستنبط أحكامه الشرعية ولو كان مثقفا ومتقنا لقواعد اللغة العربية. و الأمانة العلمية تقتضي الاعتراف بأن كثيرا من الباحثين قد تعرضوا في مؤلفاتهم لعلوم تفسير القرآن. و لكنهم وقعوا في أخطاء حيث اعتبروا التعديل الجزئي بين الآيات نسخا مثل التقييد و التخصيص. و هذا غير صحيح كما سوف أبين الأدلة على ذلك في جوهر البحث.

و مما أضفته لمعرفة علوم تفسير القرآن أني أعطيت أمثلة تطبيقية كثيرة من آيات القرآن تبين للناس قواعد فهمه. و حسب علمي لم يقم أحد من قبلي بهذه الدراسة التطبيقية المفصلة حول قواعد فهم القرآن. و ذلك ما يسهل على الناس القيام بواجب فهم القرآن و الاقتناع الشخصي المباشر دون واسطة. لأن واجب الالتزام بالقرآن لا يتحقق إلا بعد فهم أحكامه و حدوده و فهم القرآن لا يتحقق إلا بمعرفة قواعد فهمه و علوم تفسيره.

و مما يدل على أهمية هذا البحث أنه أضاف رصيدا مهما للمعرفة الشرعية الإسلامية حيث توصلت إلى استنباط أحكام شرعية من آيات القرآن في مجالات متعددة لكي يستفيد منها إخواني المسلمون في كل مكان. وأهمية هذا البحث تؤكد أن على كل إنسان قراءته وتدبره لأن قواعد فهم القرآن هي مفتاح باب الإطلاع على كنوز القرآن وتشريعه وحكمته وفلسفته وبذلك يتأكد الإنسان بنفسه ويكتشف الأدلة والبراهين الصادقة الدالة على وجود الله تعالى وعلى صدق القرآن.

لهذا سوف أتعرض لجوهر الموضوع من خلال تسع نقط متتالية هي الآتية:

1) الأساس الشرعي لوجوب معرفة قواعد فهم القرآن

2) أمثلة تطبيقية عن الناسخ و المنسوخ

3) أمثلة تطبيقية عن المحكم و المتشابه

4) أمثلة تطبيقية عن المطلق و المقيد

5) أمثلة تطبيقية عن العام و الخاص

6) أمثلة تطبيقية عن أسباب النزول و ترتيبه الزمني

7) إتقان اللغة العربية وقواعدها

8) أمثلة تطبيقية عن المنطوق و الغير منطوق

9) أمثلة تطبيقية عن الحكم المجمل و الحكم المبين و المفسر له

1- الأساس الشرعي لوجوب معرفة قواعد فهم القرآن:

إن الأساس الشرعي الذي يفرض على كل إنسان معرفة قواعد و علوم فهم القرآن و تفسيره هو واجب الالتزام بأحكامه و حدوده التي فرضها الله تعالى على كل إنسان طيلة حياته المؤقتة في الدنيا و منذ بلوغه سن التكليف الشرعي. و قبل أن أبين الأدلة الدالة على ذلك أعطي تعريفا ملخصا للقرآن الكريم و مسألة فهمه و مدلول قواعد تفسيره، و لهذا أتناول هذا المحور الأول فـي ثلاث نقط هي: أ) معنى فهم القرآن. ب) تعريف قواعد فهم القرآن. ج) واجب الالتزام بالقرآن هو أساس وجوب معرفة قواعد فهمه.

أ) معنى فهم القرآن:

القرآن كلام الله تعالى و شرعه و حكمه و حكمته و فلسفته و شرعه الذي يجب على كل إنسان في العالم الالتزام بأحكامه، فالقرآن هو التشريع الذي نسخ به الله تعالى الشرائع السابقة و ألغاها بقضائه و قدره مثل التوراة و الإنجيل. و هو المكتوب بأمر الله تعالى في ملايين المصاحف المتوفرة في كل أنحاء العالم. و القرآن نظام شامل اجتماعي و ديني و اقتصادي و سياسي. و هو أداة ابتلاء و امتحان و اختبار للناس في الدنيا.

و لكن السنة النبوية ليست من القرآن و لا يجوز أن تخالفه شرعا. و اجتهاد علماء المسلمين تفسير للقرآن و لكن ليس قرآنا، و القرآن هو المصدر الأسمى للتشريع الإسلامي، و يجب أن تكون القوانين الوضعية في بلاد المسلمين مطابقة و مطبقة لحدود و أحكام القرآن. و أحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالإنترنت حول موضوع “علاقة السنة بالقرآن”. و القرآن نعمة من الله تعالى و رحمة للناس لأن كل ما فيه من أحكام و مواعظ و أخلاق فاضلة خير لمن اتبعها و سعادة في الدنيا و الآخرة. و الدليل هود 1 “ألـر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” و فصلت 42 ” لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”.

وقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن من كل تحريف. والدليل أنه لم يحرف نهائيا منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة لقوله تعالى في الحجر 9 “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”،    وفهم القرآن واجب فرضه الله تعالى لمعرف حدوده وأحكامه الشرعية والإلتزام بها قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. ويعني تدبر آياته وسوره وألفاظه ومعانيه وعباراته لاستنباط الأحكام الشرعية من آياته وذلك من أجل العمل بها والإلتزام بها قولا وعملا سرا وعلانية وتفكيرا واعتقادا.

    فهم القرآن ليس مسألة سهلة في متناول كل إنسان. بل يحتاج إلى إلمام باللغة العربية وقواعدها ومعرفة منهج وقواعد وعلوم فهم وتفسير القرآن.وهذا الفهم للقرآن واجب فرضه الله تعالى على كل إنسان ومن الأدلة على ذلك محمد 24 “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” وص 29 “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته…” والنساء 82 “أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا” والمؤمنون 68 “أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين”.وقد أمر الله تعالى علماء الإسلام بشرحالقرآن وتفسيره للناس بصدق ودون تحريف والدليل النحل 43 “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” والبقرة 159-160 “إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم”. و البقرة 174 “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم”.

    وقد أمر الله تعالى الأمة الإسلامية بتكوين علماء مختصين في علوم القرآن ليقوموا بالدعوة الإسلامية وليفسروا القرآن للناس في كل زمان ومكان. والدليل التوبة 122 “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”.

    و لا يجوز نهائيا استنباط حكم شرعي إلا من نص قرآني لأن الله تعالى هو المشرع و الحاكم والمدبر لأمور الكون كله. لا يجوز لأحد أن يشرع ما لم يأذن به الله تعالى ولو كان الرسول أو العلماء. فاستنباط الأحكام بالقياس و الإستحسان والمصالح المرسلة وغيرها لا يجوز شرعا إلا إذا كان للحكم المستنبط أصل في نص من نصوص القرآن. ومن خالف نصوص القرآن فقد حرف وغير حكمة الله تعالى ومراده. و بذلك فقد كفر بما أنزل الله الذي حرم الكذب على الله وقول الإنسان ما لم يعلم علما صحيحا عن القرآن. و الدليل آيات كثيرة منها الأعراف 33 ” قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون“.

    ولا يجوز تفسير القرآن حسب ترتيب سوره وآياته في المصحف بل حسب ترتيب النزول الزمني لها لأن الله تعالى قد نسخ و ألغى آيات بأخرى لاحقة لها في النزول و ليس حسب ترتيب المصحف كما عدل سبحانه و تعالى أحكاما شرعية بأخرى لاحقة لها في النزول و ليس حسب ترتيب المصحف. و لا يجوز تفسير الآية منفصلة عن باقي آيات القرآن الأخرى لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، و هناك علاقة النسخ الكلي و التعديل الجزئي بين الآيات فلابد من مراعاتها كما أن الآية يجب فهمها في إطار محورها و سياقها العام الذي وردت فيه و الموضوع العام المرتبطة به.

ب) تعريف قواعد فهم القرآن:

و فيما يلي أعرف مفهوم و مدلول قواعد فهم القرآن و علوم تفسيره. منذ بداية نزول القرآن اهتم العلماء و الفقهاء و الدعاة الإسلاميون بفهم القرآن و تفسيره. و ألفوا الكثير من المؤلفات في هذا المجال. لكن تضاربت مؤلفاتهم و بدا بينها اختلاف و تعارض في تحديد الأحكام الشرعية. و من أهم أسباب ذلك أنهم لم يحترموا منهج و علم تفسير القرآن من جهة كما أن كثيرا من الآيات التي فسروها قد نزلت آيات أخرى فيما بعد ناسخة أو مقيدة أو مخصصة لها. كما أنهم قد اعتمدوا حرفيا و نقلا عن السنة النبوية التي فسرت بعض الآيات. و لكن نسخها القرآن فيما بعد بآيات أخرى فأصبحت مخالفة للقرآن، و رغم ذلك اعتمد علماء السلف و اتباعهم على هذه السنة التي نسخها القرآن. و لم ينتبهوا لذلك عن قصد أو عن غير قصد. كما أن هناك أحاديث موضوعة كذبا في السنة ومخالفة للقرآن ورغم ذلك يعتمد عليها بعض العلماء جهلا أو عن قصد. لهذا فإن المنهج العلمي لتفسير القرآن يفرض عرض كل ما نسب للسنة النبوية أو لعلماء الاسلام السابقين على نصوص القرآن للتأكد من صحته. و يفرض أيضا معرفة قواعد فهم القرآن لاستنباط الأحكام الشرعية الصحيحة من آيات القرآن. لأن هناك الكثير من الأحاديث المنسوبة كذبا للسنة النبوية و هي مخالفة للقرآن. فلا يجوز شرعا الاعتماد عليها لفهم القرآن و تفسيره.

قواعد فهم القرآن و تفسيره لها علم خاص بها. و بدون معرفتها لا يمكن فهم آيات القرآن و لا يمكن استنباط الأحكام الشرعية. و أهمية معرفة قواعد فهم القرآن بالغة لأن كل إنسان ملزم من الله تعالى بتطبيق القرآن و اتباع أحكامه و حدوده قولا و عملا سرا و علانية و تفكيرا و اعتقادا. فلا يمكن لإنسان الالتزام بما لم يفهم، كما أن استبدال قلب انسان مريض بقلب آخر سليم لا يمكن أن يقوم به إلا الطبيب المختص الذي له معرفة بالعلوم الطبية و خاصة ما يهم العملية الجراحية لاستبدال قلب بآخر.

لهذا فإن معرفة قواعد فهم القرآن واجبة على كل انسان و هي شرط أساسي لفهم القرآن و استنباط الأحكام الشرعية من آياته الكريمة. و من يفسر القرآن من دون مراعاة قواعد و منهج التفسير و شروطه يكذب على الله تعالى و يضل الناس و يحرف شرع الله عن قصد أو غير قصد. فلا يكفي حفظ القرآن عن ظهر قلب أو قرآءته في المصاحف كل يوم و تجويده أو وضع المصحف في المنزل و السيارة و غيرها، بل المهم و الأهم هو معرفة قواعد فهم القرآن و تدبره و تطبيق أحكامه الشرعية و الالتزام بها قولا و عملا سرا و علانية حتى الموت. فقد تأكد فعلا و في عدة حالات  تحققت في الواقع أن أشخاصا يحفظون القرآن عن ظهر قلب و لكنهم يخالفون بأقوالهم و أفعالهم أحكامه و حدوده.

   وقد قال الله تعالى ذلك في سورة الجمعة 5 “مثل الذين حملوا الثوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله”. فالحافظ للقرآن أو القارئ له في المصاحف والمجود له إذا لم يفهمه ولم يطبقه كالحمار الذي يحمل على ظهره كتبا ولكنه يجهل ما فيها.

    وهناك ملاحظة مبينة لأهمية معرفة قواعد فهم القرآن. وهي أن هناك عملاء الحكام والكفار الذين يحرفون القرآن ويكذبون على السنة النبوية ويصدرون فتاوى مخالفة لشرع الله تعالى لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية ومالية وللقضاء على الإسلام وتفريق الأمة الإسلامية. لهذا يجب تعليم قواعد فهم القرآن للناس في المدارس والمعاهد والكليات وعبر وسائل الإتصال المختلفة ووسائل الإعلام والمحاضرات والدروس العمومية في كل مكان. ومن هنا يتجلى الدور المنوط بالدعاة وعلماء الإسلام حيث يجب البدء بتعليم الناس قواعد فهم القرآن ليقتنعوا بأنفسهم دون واسطة بصدق القرآن, ويجب كذلك القيام بالتربية الدينية الإسلامية للشباب في كل بلاد الإسلام وباستمرار.

ج: واجب الإلتزام بالقرآن هو أساس وجوب معرفة قواعد فهمه

    كل إنسان في العالم مهما كان لونه ولغته وجنسيته ومكان إقامته ملزم بمعرفة قواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره لأنه ملزم بأمر من الله تعالى بفهم القرآن ومعرفة أحكامه الشرعية وحدوده لكي يطبقها ويلتزم بها قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. وقد قرر الله تعالى الجزاء على أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة فإذا كانت مطابقة لحدود وأحكام القرآن ينال الإنسان رحمة الله والحياة الدائمة في سعادة الجنة، وإذا كانت مخالفة لها ينال الإنسان عذاب الله تعالى في الدنيا وجهنم في الآخرة بعد البعث. من هنا تظهر أهمية معرفة قواعد فهم القرآن من أجل استنباط أحكامه الشرعية ومعرفة حدوده الملزمة لكافة الناس في العالم. ومن الأدلة على وجوب اتباع القرآن ما يلي : البقرة 38-39 “قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتيكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” والأعراف 35-36 “يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كدبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” والأنعام 153 “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” والأنعام 155 “وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون” والزمر 55 “واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون” والأعراف 3 “اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء” والتحريم 6 “يأ أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا” والبقرة 229 “تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون” والطلاق 1 “وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه”. فالقرآن حكم الله تعالى وأمره الموجه والمنزل لكافة الناس بالعالم يجب عليهم تنفيذه. و لتنفيذه يجب عليهم فهمه ولفهمه يجب عليهم معرفة قواعد فهم القرآن. و الأدلة على ذلك كثيرة منها ما يلي: الحديد 25 “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” والبقرة 213 “كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس”. فالقرآن يتضمن ما يجب أن يحكم به أولوا الأمر والحكام المنتخبون من طرف الأمة الإسلامية بين الناس وكل ما يهم تدبير شؤون الدولة الإسلامية. ويتأكد لنا أمر الله تعالى بذلك في عدة آيات منها المائدة 44 “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” والمائدة 45 “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون” والمائدة 48 “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق”.

فالقرآن حكم الله تعالى الذي يجب أن يطبق في دار الإسلام. والأدلة منها الممتحنة 10 “ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم” ويوسف 40 “إن الحكم إلا لله” والطلاق 5 “ذلك أمر الله أنزله إليكم” وهو القرآن الذي يتضمن أوامر الله تعالى التي يجب الإلتزام بها. ولذلك يجب فهم القرآن ولذلك تجب معرفة قواعد فهمه وعلوم تفسيره. والقصص 70 “وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون”. والرعد 41 “والله يحكم لا معقب لحكمه”.

    والأساس الشرعي الهام الذي يفرض معرفة قواعد فهم القرآن هو أن القرآن هو الدستور الأسمى للدولة الإسلامية ومصدر كل تشريع وقانون وضعي فيها. والقانون الوضعي في الدولة الإسلامية يجب شرعا أن تضعه الأمة الإسلامية أو ممتلوها في مجلس الأمة المنتخب من طرفها ويضم سائر علماء المسلمين المتقين الصادقين. ويجب أن تكون هذه القوانين الوضعية مطبقة للقرآن ومطابقة لأحكامه وحدوده. فالقرآن حكمة وفلسفة وإرادة الله تعالى الذي شرعه للناس وهو نظام شامل عام اجتماعي وديني وسياسي واقتصادي وهو مادة استخلاف الله تعالى للبشر في الحياة الدنيا المؤقتة. حدد القرآن قواعد النظام السياسي للدولة الإسلامية. فهي دينية ومدنية. ومشروعية الحكم والسلطة السياسية في النظام الإسلامي هي تطبيق القرآن في دار الإسلام وسياسة الدين والدنيا. فلا يجوز شرعا فصل الدين عن الدولة كما يدعي أعداء الإسلام بل إن الدولة وجدت لخدمة الدين الإسلامي ومن ذلك فرض تطبيق أحكام وحدود القرآن في كل المجالات الإجتماعية والإقتصادية والدينية والسياسية. ولا يجوز الأخذ من القوانين الأجنبية إلا ماهو غير مخالف لنصوص القرآن والقرآن حدد فيه الله تعالى القواعد والمبادئ والأحكام المنظمة لكل هذه المجالات وهي صالحة لكل زمان ومكان. وعلى علماء الإسلام الإجتهاد لتطبيقها واستنباطها في كل عصر.

والديمقراطية في الإسلام تختلف عن الديمقراطية لدى الكفار. فهي الحكم بما أنزل الله تعالى وجوبا وهو القرآن وليس الحكم بما أراد الشعب ولو كان مخالفا للقرآن. وانتخاب واختيار الحكام ورجال السلطة في الإسلام يتم من طرف الشعب المسلم بناء على معايير الإسلام والإيمان الصادق والأهلية والتقوى وليس بناء على معايير المال والنفوذ والتزوير وغيره. وحقوق وحريات الإنسان في الإسلام حددها الله تعالى في القرآن. ولا يجوز شرعا تجاوزها ومخالفتها أما في دول الكفر والعلمانية فإن حقوق وحريات الإنسان تحددها أغلبية الشعب حسب الهوى وما تشتهي الأنفس ولو كانت مخالفة للأخلاق والآداب والقرآن.

    فكل دولة لا يطبق فيها القرآن كافرة. ولا يجوز فصل الدين عن الدولة في دار الإسلام. والقوانين الوضعية في الدولة الإسلامية لا تكون مشروعة ولا يلتزم بها المسلمون إلا إذا كانت مطابقة ومطبقة لأحكام القرآن الشرعية وحدوده.

من هنا تظهر أهمية وواجب معرفة قواعد فهم القرآن التي تمكن الإنسان من فهم القرآن واستنباط أحكامه الشرعية من أجل الإلتزام بها وتطبيقها. طبعا يمكن للأمة الإسلامية وضع قوانين صالحة لظروف العصر ولكن يشرط أن لا تخالف حدود ومبادئ القرآن.

    فكل إنسان في العالم ملزم بمعرفة قواعد فهم القرآن لأن القرآن منزل لكافة البشر. وقد نسخ الشرائع السابقة ومنها التوراة والإنجيل. والأدلة على ذلك كثيرة منها : الفرقان 1 “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا” والأعراف 157 “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” ومحمد 2 “و آمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم” والمائدة 15 “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” فالإسلام هو دين الله تعالى الحق الذي يجب أن يتبعه ويعتنقه كل إنسان في العالم. ومن الأدلة آل عمران 19 “إن الدين عند الله الإسلام” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” والتوبة 33 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” والأنفال 39 “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”.والتوبة 11 “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين”. طبقا لهذه الأحكام الشرعية وغيرها مما لم يذكر لا تجوز إقامة الكفار في دار الإسلام لحماية النظام الإسلامي. ولا تجوز إقامة أي دين غير الإسلام في دار الإسلام ومن ذلك الكنائس والمعابد الغير الإسلامية.ومن الأدلة أيضا الأعراف 158 “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” وسبأ 28 “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا” والنساء 174 “يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا”. والتوبة 6 “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله تم أبلغه مأمنه”. فالحكم الشرعي الغير المنطوق في هذه الآية أنه لا أمن ولا أمان ولا إقامة في دار الإسلام إلا لمن آمن بالقرآن وعمل بأحكامه. لهذا تتجلى أهمية وواجب معرفة قواعد فهم القرآن للإطلاع على حكمة الله تعالى وفلسفته و كنوز تشريعه الصالحة لكل زمان ومكان والتي فيها خير ومصلحة للمسلمين الذين يلتزمون بها قولا وعملا سرا وعلانية. وأحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالإنترنت حول موضوع: بطلان التوراة والإنجيل بالقرآن وأحكام الكفر والإيمان.

ومما يؤكد وجوب معرفة قواعد فهم القرآن أن الله تعالى قرر استخلاف البشر في الأرض الدنيا لإجتياز اختبار وابتلاء وامتحان مادته القرآن والشرائع السماوية السابقة التي نسخها قضاء الله وقدره بالقرآن. و طبقا لهذا الإختبار والإمتحان يحدد الله تعالى مصير كل إنسان في الآخرة بعد البعث. فإن التزم الإنسان بحدود القرآن وأحكامه الشرعية حتى الموت ينال رضى الله ورحمته والحياة الدائمة في سعادة الجنة ويرى ذات الله العظيمة ويكلمه مباشرة وإن خالف الإنسان حدود القرآن وأعرض عنه ينال غضب الله تعالى وعذابه والحياة الدائمة في شقاء جهنم. فإذا أراد الإنسان رحمة الله تعالى وجنته عليه الإلتزام بحدود القرآن ولكي يلتزم بها عليه أن يفهم القرآن ولكي يفهمه عليه معرفة قواعد فهمه وعلوم تفسيره. ومن الأدلة على ابتلاء الله للناس في الدنيا ما يلي : الكهف 7 “إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا” والمائدة 48 “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم” ويونس 14 “ثم جعلناكم خلائق في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون” وهود 7 “وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا”.

    الإنسان ملزم بعبادة الله تعالى حتى الموت. والدليل الذاريات 56 “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” وملزم بالمساهمة في إعمار الأرض طبقا لحدود القرآن. والدليل هود 61 “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” والحديد 7 “آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”. لهذا يجب على كل إنسان في العالم معرفة قواعد فهم القرآن لاستنباط أحكامه الشرعية وحدوده.

     ومما يؤكد وجوب معرفة قواعد فهم القرآن أن الإنسان مراقب في أعماله وأقواله بالدنيا وينال الجزاء عنها حتما. فهي تسجل في كتاب أعماله من طرف الملائكة بأمر من الله تعالى ويراقبها الله تعالى وتشهد بها أعضاء الإنسان وتوزن في ميزان الأعمال بعد البعث في الآخرة. والجزاء إما السعادة الدائمة والخالدة في الجنة أو العذاب الدائم والخالد في جهنم حسب نتيجة الميزان.

ومن الآيات الدالة على مسؤولية كل إنسان عن أعماله وأقواله ومراقبته باستمرار حتى الموت ما يلي : الزمر 7 “ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور” والمجادلة 6 “يوم  يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد” سبأ 3 فصلت 40 والمجادلة 7 “ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة. إن الله بكل شيء عليم” الله تعالى مع كل إنسان في كل مكان وزمان باستمرار بعلمه وبصره وسمعه وتصرفه وكلامه. و للمزيد من المعلومات أحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالانترنت حول موضوع “من هو الله تعالى وأين هو”. ومن هذه الآيات أيضا الجمعة 8 “قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” ويونس 61 “ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين” والملائكة بأمر الله تعالى يسجلون أعمال وأقوال كل إنسان في كتاب أعماله الذي يحاسب به في الآخرة. والدليل : يونس 21 “إن رسلنا يكتبون ما تمكرون” والزخرف 80 “أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون” والإنفطار 10-12 “وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون”.

فكل إنسان يحاسب عن أعماله التي عملها في حياته المؤقتة بالدنيا. فإن التزم بحدود القرآن حتى الموت فقد فاز في الجنة ورحمة الله عز وجل وإن أعرض عنها فقد خسر الدنيا والآخرة ومصيره عذاب الله تعالى الدائم في جهنم. ومن الأدلة الجاتية 28-29 “اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون” والكهف 49 “ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقـين مما فيه. ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصادها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا” والإسراء 13-14 “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”.

الله تعالى يحاسب كل إنسان عن أعماله المسجلة في كتابه بعد البعث ولا يظلم أحدا أبدا. والدليل : الأنبياء 47 “ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها وكفى بنا حاسبين” والمؤمنون 62 “ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون” و النساء 40 “إن الله لا يظلم مثقال ذرة” والأعراف 8-9 “والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون” والمؤمنون 102-104 “فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوهم النار وهم فيها كالحون” والزلزلة “إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” والقارعة “القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوت وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما دراك ما هيه نار حامية”.

    فاستعمل عقلك أيها الإنسان في كل مكان واعلم أنك ملزم بفهم القرآن والإلتزام بحدوده قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت لأنك في حالة ابتلاء وامتحان. ولأن الله خلقك لتعبده وتعمر الأرض طبقا لنظام الاستخلاف ومادة الإبتلاء والإمتحان وهو القرآن. واعلم أيها الإنسان أنك مراقب من الله تعالى وملائئكته وأعضائك التي تشهد عن أعمالك وأقوالك أمام الله تعالى. لهذا يجب عليك أيها الإنسان معرفة قواعد فهم القرآن لتستطيع فهمه واستنباط أحكامه الشرعية وحدوده الملزمة لك.ومما يؤكد وجوب معرفة قواعد فهما القرآن أن أي إنسان لا يعذره الله تعالى عند الحساب بالآخرة. فلا تضيع فرصة الحياة الدنيا أيها الإنسان. والأدلة على ذلك منها ما يلي : الله تعالى جعل تبليغ شرائعه للناس بواسطة رسله حجة عليهم وعلى كافة الناس. لقوله تعالى في النساء 165 “رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما”. لا يقبل الله تعالى اعتذار المبعوثين في الآخرة لأنهم لم يؤمنوا أو لم تتوفر لهم فرص عبادة الله والإلتزام بحدود شرعه. بل يجازيهم حسب ما في كتب أعمالهم والأدلة كثيرة منها سبأ 33 “وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون” وغافر 52 “يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار” وغافر 84-85 “فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون” والفجر 23-26 “يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي. فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد” والروم 57 “فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتيون” والملك 8-11 “كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جائنا نذير فكذبنا وقلنا ما أنزل الله من شيئ. إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير” والأنعام 158 “يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا”. فبعد البعث في الآخرة لا يجوز شرعا الإعتذار لله تعالى وطلب توبته ومغفرته. فلا تقبل التوبة إلا إذا تاب الإنسان في الدنيا وقبل الشعور بقرب أجل الموت ويشرط أن تتجسد التوبة الصادقة في الإيمان الصادق والعمل الصالح والتقوى بصدق ودون تحايل أو نفاق ودون نقض شروط التوبة.

ويؤيد ذلك قول الله تعالى في التحريم 7 “يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون” والقيامة 12 – 15 “إلى ربك يومئذ المستقر. ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره” ويونس 54 “ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون”. وفاطر 37 “وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير. فذوقوا فما للظالمين من نصير” والأعراف 53 “هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل. قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون” والنمل 84-85 “حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون. ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون”.

فتأكد أيها الإنسان بعد تدبر هذه الآيات أن الله تعالى قرر بقضائه وقدره المطلق العادل عدم قبول التوبة والندم والإعتذار بعد البعث يوم الحساب عن أعمال الدنيا. فالتوبة يجب أن تكون في الدنيا بدون تحايل وبدون رجعة ويجب أن تتجسد فعلا في الإيمان الصادق والعمل الصالح والتقوى فسارع أيها الإنسان في كل زمان ومكان إلى معرفة قواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره ولكي تقوم بواجب الإلتزام بحدوده وأحكامه الشرعية قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت، لكي تفوز بسعادة الدنيا والآخرة وبرحمة الله تعالى والنظر  إلى ذاته العظيمة والكلام مباشرة معه دون حجاب.

    وأختم هذه النقطة حول الأساس الشرعي لوجوب معرفة قواعد فهم القرآن بما يلي :

    الله تعالى أنزل للناس أعظم شريعة متكاملة وشاملة لكل جوانب حياة الإنسان الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والدينية. وبين فيه عز وجل ما ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة. ولكن السبب الرئيسي الذي جعل كثيرا من الناس لا يؤمنون بالقرآن ولا يعملون به أنهم يجهلون اللغة العربية وقواعدها ويجهلون قواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره. فلو توفر لهم ما جهلوه ولو كانت نواياهم صادقة غير متأثرة بأعداء الإسلام لأكتشفوا حقا أسرار وثقافة وحكمة وفلسفة القرآن ومقاصده وقيمه السامية التي فيها الخير لكل بني الإنسان الذين يتبعون القرآن. و من هنا تظهر الأهمية البالغة لمعرفة قواعد فهم القرآن التي تمكن الإنسان من فهم وتدبر آياته واستنباط أحكامها الشرعية للعمل بها. و تظهر أهمية تعليم قواعد فهم القرآن وعلم تفسيره لكافة الناس في كل مكان وزمان. وفي ذلك تدعيم للدعوة الإسلامية. فالذي يكتشف أسرار القرآن بعقله ويلاحظ بدقة آيات الله تعالى في القرآن والكون والإنسان ويقارن بينها يؤمن بصدق واقتناع أكثر من الذي يقتصر على النقل الحرفي وتقليد الغير فيكون إيمانه على الغالب مضطربا وغير متيقن.

و من هنا تبدو الأهمية البالغة التي تكتسبها هذه الدراسة التطبيقية الموضحة لقواعد فهم القرآن والتي أبينها في النقط التالية من رقم 2 إلى 9.

2 – أمثلة تطبيقية عن الناسخ والمنسوخ في القرآن:

    معرفة علم الناسخ والمسوخ تكتسي أهمية بالغة وخطيرة لأن من يجهلها لا يستطيع استنباط الأحكام الشرعية الصحيحة من آيات القرآن. وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال فينال عذاب الله تعالى في الدنيا وجهنم بعد البعث في الآخرة. لذلك فإن معرفة كل قواعد فهم القرآن ومنها علم الناسخ والمنسوخ أساسية وشرط لابد منه لتحديد وبيان أحكام القرآن وحدوده للناس والتي يجب عليهم العمل بها قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت للفوز برحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة.

   لهذا قبل إعطاء أمثلة تطبيقية على الناسخ و المنسوخ في القرآن أبين نظرية النسخ كقاعدة من قواعد فهم القرآن وذلك من خلال النقط التالية بالتدريج: أ- تعريف النسخ في القرآن وشروطه ب- مبررات النسخ في القرآن ومشروعيته ج- أمثلة عن النسخ.

أ – تعريف النسخ في القرآن وشروطه

النسخ في القرآن هو إلغاء الحكم الشرعي في آية بكاملها بآية أخرى لاحقة لها في الترتيب الزمني للنزول. و يترتب على ذلك إلغاء الآية المنسوخة كلها وما فيها من أحكام شرعية. فلا يكون للآية المنسوخة أي أثر إلزامي للناس رغم وجودها مكتوبة ومقروءة في مصحف القرآن. وحكم الآية الناسخة هو الذي يكون ملزما للناس. والآية المنسوخة حكمها باطل.

فهناك فرق شاسع بين نسخ آية لآية سابقة لها في النزول و بين أية معدلة جزئيا لحكم من أحكام آية سابقة لها في النزول. في هذه الحالة ليس هناك نسخ بالآية اللاحقة لها في النزول لأن الآية المعدلة بقي حكمها ملزما للناس كما عدلته الآية اللاحقة في النزول. ويسمى في هذا المثال تقييد المطلق أو تخصيص الحكم العام، ولا يعتبر نسخا. فعلاقة تخصيص الحكم الشرعي أو تعميمه وعلاقة تقييد الحكم الشرعي أو اطلاقه ليست نسخا لأن الآية التي دخل عليها التعديل لم تلغ بكاملها بل بقي حكمها ملزما حسب التعديل الذي أدخلته عليها الآية اللاحقة في النزول. فالتعديل الجزئي بين حكمين شرعيين لا يلغي أحدهما الآخر مثل النسخ ولكن ينقص ويعدل مقتضيات الحكم فقط أو يزيد فيها. لهذا فمن لا يعلم علم الناسخ والمنسوخ وكافة قواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره لا يجوز له القيام بتفسير القرآن والدعوة الإسلامية والوعظ والإرشاد.

لهذا لا تفسر آية من القرآن إلا بعد مقارنتها بكل آيات القرآن الأخرى لمعرفة المحور والسياق العام الذي وردت فيه والموضوع التشريعي الذي ترتبط به وجوبا. ولمعرفة الآيات التي نسخت كليا آيات سابقة لها في النزول أو عدلتها جزئيا. ومن الخطأ أن كثيرا من مفسري القرآن لازالوا يعتمدون على فتاوى دينية صدرت عن آيات قبل أن تنسخها أو تعدلها آيات لاحقة في النزول.حيث أصبح هذا التفسير مخالف اللقرآن.من هذه الفتاوى مثل “تحريم الصلاة على السكران حتى يصحو ويعود إليه عقله” هذه الفتوى كانت مشروعة ومفسرة للنساء 43 قبل نزول المائدة 90 التي حرمت الخمر نهائيا.

فمن قرا هذه الفتوى الآن دون علمه بالمائدة 90 يحلل الخمر خلافا لشرع الله تعالى الذي حرمه. لهذا يجب عرض كل ما نسب للسنة وتفسير الناس للقرآن على آياته للتأكد من صحته لأن هناك أحاديث نبوية فسرت آيات قبل نسخها بآيات لاحقة لها في النزول. لهذا يجب الحذر من الذين يدعون تفسير القرآن بغير علم ولا يتوفرون على الكفاءة والأهلية المطلوبة ومنها معرفة علم الناسخ والمنسوخ وكل قواعد فهم القرآن ومنها العلم بترتيب نزول آيات القرآن زمنيا. وقد حذر الله تعالى من اتباعهم والدليل يونس 89 “قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون” والمائدة 48 “ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق” والجاتية 18 ” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون “. ولهذا يجب على الأمة الإسلامية إضافة جدول ترتيب نزول سور وآيات القرآن زمنيا في ملحق مصحف القرآن. لأنها ليست مرتبة فيه حسب ترتيب النزول الزمني ولأن هذا الترتيب شرط أساسي لمعرفة الناسخ والمنسوخ والمقيد للمطلق والمخصص للحكم الشرعي العام.

والنسخ في القرآن له شروط لابد من توفرها. وأبينها فيما يلي: النسخ لا يكون إلا بين آيتين من آيات القرآن. والله تعالى وحده ناسخ ومعدل آيات القرآن. والدليل الشرعي البقرة 106 “ما تنسخ من آية أو ننسها نأت بخبر منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيئ قدير” والنحل 101 “وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون” فالله تعالى وحده هو الذي بدل بعض آيات القرآن بأخرى نسختها وألغت أحكامها الشرعية وأبطلت إلزامها للناس، ومن الأدلة على ذلك يونس 15 “وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لايرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله. قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ان أتبع إلا ما يوحى إلي”والحاقة 44-47 “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين”والحج 52 “وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم” والرعد 38-39 “وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويتبت وعنده أم الكتاب”. والإسراء 86 “ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا “.

الله تعالى هو الذي شرع للناس ما شاء من الشرائع والآيات حسب الظروف الزمنية والتطور البشري ومصالح الإنسانية المشروعة. وقد نسخ الله تعالى شرائع بأخرى ونسخ آيات بآيات أخرى داخل الشريعة الواحدة.

و لكن يجب التمييز بين آيات القرآن التي وقع بينها النسخ والتعديل الجزئي وبين آيات الله تعالى في الكون والنفس البشرية. فهذه الأخيرة لايشملها النسخ الذي تعرضنا له في القرآن. وهي دليل وبرهان على وجود الله تعالى وتصرفه وعلى صدق القرآن، ودالة على قضاء الله وقدره المطلق العادل، والدليل فصلت 53 “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” والشورى 29 “ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة”. و الفتح 20 “وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين” والأنبياء 91 “والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين”.

    والنسخ لايكون إلا بين آيات القرآن. ومن الأدلة : الجاتية 6 “تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون” وفصلت 44 “ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي”. لهذا فالحكم الشرعي المؤكد للنسخ في النحل 101-102  والبقرة 106 والرعد 38-39 المذكورة يتعلق حصريا بآيات القرآن وحدها.

    هكذا يتبين أن النسخ لايكون مشروعا إلا بين آية وآية أخرى من آيات القرآن. ومن شروط النسخ كذلك أن يكون تعارض وتناقض بين آية وأخرى لاحقة لها في النزول بحيث لا يمكن الجمع بينها ولا يمكن تنفيذهما معا رغم أن لهما موضوعا واحدا ويشترط أن تكون الآية الناسخة لاحقة في النزول بعد الآية المنسوخة بكاملها.

    و من الآثار المترتبة على النسخ أن الحكم الشرعي الوارد في الآية المنسوخة لا يلزم الناس رغم وجوده في مصحف القرآن. والحكم الشرعي في الآية الناسخة هو الملزم لهم.

    لهذا فالآيات المتشابهة لا نسخ فيها. لأننا لا نعلم تأويلها ومعانيها الصحيحة بدقة إلا بعد البعث في الآخرة. فلا يمكننا معرفة الناسخ من المنسوخ في المتشابه لأننا لا نعلم تأويله. كما أن الآيات المنسوخة ليست من المتشابه لأننا نعلم تأويلها وتفسيرها فهي محكمة قبل نسخها ولكن يحرم على الناس اتباعها لأنها ملغاة بحكمة الله تعالى الذي نسخها بآيات أخرى.

ب : مبررات النسخ في القرآن ومشروعيته :

إن معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن والتعديل الجزئي بين آياته كالمطلق والمقيد و العام والخاص والحكم المنطوق والغير المنطوق والحكم المجمل والحكم المفسر والمبين له معرفة أساسية ضرورية لاستنباط أحكام القرآن وتمييز الحلال من الحرام والفرائض والمحرمات ومعرفة حدود الله تعالى الواجب الالتزام بها للفوز برحمة الله عز وجل وجنته والنجاة من عذابه وجهنم.

و قد ادعى بعض المفسرين للقرآن عدم جواز النسخ في القرآن مستندين إلى عدم فهم سورة فصلت 42 ” لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”. والحقيقة أن النسخ والتعديل الجزئي بين آيات القرآن مبرر شرعا ومشروع لأن إرادة الله تعالى شاءت النسخ والتعديل الجزئي لحكمة يعلمها هو. والدليل أن الله تعالى أكد في القرآن أنه هو الناسخ لآية بأخرى والمعدل جزئيا لآية بأخرى أو حكم بآخر لقوله تعالى في النحل 101-102  والبقرة 106 “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير”. فالله تعالى هو صاحب القضاء والقدر المطلق العادل لتشريع ما يريد وإلغاء ونسخ أو تعديل ما يريد. لأنه عالم الغيب والشهادة وأعلم بمصالح عباده.

لا يمكن للرسول الإتيان بآية إلا بعد أن ينزلها عليه الله تعالى سواء الناسخة أو المنسوخة أو المعدلة بأخرى. والدليل الرعد 38-39 “وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويتبث وعنده أم الكتاب”.

    الله تعالى نسخ الشرائع المنزلة بأخرى وعدلها وخاتمها القرآن الذي نسخ التوراة والإنجيل. وهو الكتاب المنزل لكافة البشر في العالم ومنهم أهل الكتاب والنصارى واليهود. وأحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالأنترنيت حول موضوع “بطلان التوراة والإنجيل بالقرآن وأحكام الكفر والإيمان”.

فالنسخ بين الشرائع السماوية وبين آيات الشريعة الواحدة كالقرآن حكمة الله وقضاؤه وقدره تطلبته ظروف المجتمعات والأمم الاجتماعيةوالاقتصادية والسياسية.لهذا فالآية المنسوخة أو المعدلة أنزلها الله تعالى وطبقت لفترة زمنية معينة. فهي حق من الله تعالى وحكمته وليست باطلا أدخله البشر على القرآن. ولما قرر الله عز وجل نسخ أو تعديل آية معينة فإنه راعى مصلحة الناس التي كانت سابقة في علمه. لهذا فالنسخ والتعديل حق لله وحده وليس فيه باطل كما أدعى أعداء الإسلام.

    ومن أهم مبررات النسخ والتعديل الجزئي في القرآن ابتلاء الناس و اختبارهم وامتحانهم. الله تعالى غير قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب عليه.

وأمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل لابتلائه وابتلاء ابنه. ولما أكدا معا طاعتهما لله واستعد لذبحه أمره الله تعالى بعدم ذبحه. الله تعالى يعلم مسبقا أنه لن يسمح له بتنفيذ فعله. ولكن ذلك ابتلاء منه سبحانه وتعالى.

ومن مبررات النسخ والتعديل الجزئي في آيات القرآن رغبة الله عز وجل في التخفيف أو التشديد على الناس في الأحكام عقابا أو ثوابا أو ابتلاء لهم. مثلا التشديد في النساء 160 “فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم” ومثال عن التخفيف الأنفال 66 “الآن خففالله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا”.

فالقرآن نظام تشريعي تدرجي أراده الله تعالى بقضائه وقدره وإرادته المطلقة العادلة للناس كافة. لأنه أدرى وأعلم بمصالح الناس حسب تغير الأحوال والتطور الزماني. وهو نظام تربوي إسلامي تدريجي أكتمل تشريعه خلال ثلاث وعشرين سنة وربع. لهذا قال الله تعالى في المائدة 3 “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.

    هذه الآية دليل على أن التشريع القرآني لم يكتمل إلا بعد انقضاء نزول وحيه. وهذا تأكيد من الله عزوجل أن في القرآن تدرج الأحكام. وهذا من مبررات النسخ والتعديل القائم بين بعض آياته. الله عز وجل راعى مصالح الناس في كل عصر من العصور. لهذا له الحق في نسخ وتعديل ما يشاء في آيات القرآن.

    وبقاء الآيات المنسوخة والمعدلة في مصحف القرآن حجة ودليل للناس يشهد على هذا التدرج الذي عرفه التشريع القرآني الإسلامي. لهذا فإن ادعاء أعداء الإسلام بأن القرآن متناقض وفيه آيات وأحكام متعارضة وأنه من إنشاء الرسول محمد عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه هذا الإدعاء لا أساس له من الصحة. فهذا الحكم الخاطئ صادر عنهم عمدا أو عن جهل لعلوم وقواعد تفسير القرآن وفهمه. و الذي يجهل قواعد فهم القرآن وعلم تفسيره لا يفهمه ولا يدرك مقاصده وحكمته وفلسفته.

    فوجود تناقض بعض آيات القرآن وأحكامه مقصود ومن حكمة الله تعالى و إرادته. وسببه هذا التدرج في تربية المجتمع الإسلامي. فعلى الذين يدعون التناقض أن يعلموا أن الله تعالى هو الذي شرع آية متناقضة مع آية سبقتها في النزول ولتحل مكانها والقرآن كلام الله المنزل على رسوله محمد. ما فيه من آيات وكل ناسخة ومنسوخة ومعدلة جزئيا حكمة الله وقضاؤه وقدره وخلقه وتصرفه وإرادته شرعه للناس كافة في العالم حسب هذا التدرج في التربية الإسلامية. فليس هناك تناقض في الالتزام بين آيات و أحكام القرآن أبدا. لأن الله تعالى صاحب القضاء والقدر والمدبر لكل ما خلق ونسخ الآيات وتعديلها من اختصاصه وحده لهذا فإن مشروعية النسخ تفنذ ادعاء أعداء الإسلام بأن القرآن متناقض. و حتى الآيات التي لا يستطيع أحد فهم تأويلها في الدنيا فإنها ليست متناقضة ولا تمس بمصداقية القرآن.فهي آيات محكمة شرعها الله تعالى ولكن لا يفهمها ويؤولها إلا المبعوثون في الآخرة. فلا يستطيع أحد أن يرى الله وهو مستوي على العرش في السماء السابعة لضعف بصر الإنسان وعجزه. ولا أحد يستطيع رؤية الميت الذي أحياه الله وبعثه من القبر لأن الله تعالى خلق برزخا أي حاجزا بين أهل الدنيا وأهل الآخرة.

لهذا لا تناقض بين آيات القرآن أبدا. بل القرآن كله محكم و متقن. وليس فيه تناقض أو تعارض أو نقص من حيث إلزام أحكامه ومن مبررات النسخ في القرآن أن الله عزوجل نزل القرآن مفرقا وبالتدريج خلال مدة طويلة ليسهل على الناس حفظه وتطبيقه وفهمه. لهذا جاءت آيات القرآن ناسخة ومعدلة لبعضها البعض في إطار الإطلاق والتقييد والتعميم والتخصيص. حسب ظروف المجتمع الإسلامي والابتلاء أو التخفيف والتشديد. والدليل النساء 28 “يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا” و البقرة 185 “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” والحج 78 “وما جعل عليكم في الدين من حرج” والبقرة 286 “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” و المائدة 6 “ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون” الإسراء 70 “ولقد كرمنا بني آدم” يونس 60 “إن الله لذو فضل على الناس” النحل 18 “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله  لغفور رحيم”.

    فالمبرر الأساسي للنسخ والتعديل الجزئي بين آيات وأحكام القرآن هو أن الله تعالى هو صاحب حق النسخ والتعديل المذكور. فهو الذي خلق الكون وما فيه ومنه البشر وهو الذي يشرع ما يريد من أحكام للناس. بل الله تعالى قادر على إنهاء وجودنا في أية لحظة. والدليل النساء 133 “إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا”.

    الله تعالى هو المدبر لأمور الكون وما خلق فيه. لهذا شرع القرآن وفيه آيات نسخت أو عدلت جزئيا آيات أخرى حسب ما أراده الله تعالى لعباده. وليس بينها تعارض أو تناقض من حيث القوة في الإلزام.

ج : أمثلة عن النسخ في القرآن

    إن البحث في تحديد جميع الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن والآيات المعدلة جزئيا لأحكام أخرى كالمطلق والمقيد له والعام والحكم الشرعي المخصص له يكتسي أهمية بالغة ويحتاج إلى مجهود جبار ودراسة معمقة لكتاب الله تعالى لأنه يحدد الحلال والحرام في القرآن. والخطأ في ذلك يمس بمراد الله وشرعه وحكمته. ولهذا ألتمس من علماء الإسلام المتقين الصادقين التعاون وبذل الجهود والاتفاق بحق لتحديد كل ما يهم النسخ والتعديل الجزئي بين آيات القرآن نظرا لأهمية ذلك بالنسبة لفهم القرآن واستنباط أحكامه الشرعية كلها.

    وسيشرفني أن أقدم مساهمتي المتواضعة في هذا المجال. لهذا سوف أبين أمثلة عن آيات منسوخة والآيات الناسخة لها في القرآن وأطلب من الله تعالى المغفرة إن أخطأت والسداد والتوفيق لكي لا أضل الناس ولا أقول على الله إلا الحق. وأختم هذه النقطة بإعطاء الأدلة الدالة بصدق على خطأ بعض مفسري القرآن حيث اعتبروا بعض الآيات منسوخة بأخرى في حين أن ذلك غير صحيح، وبذلك أساهم في توضيح نظرية النسخ في القرآن وتمييز النسخ والإلغاء التام عن التعديل الجزئي لأحكام القرآن.

1 : أمثلة عن نسخ واقع حقا في القرآن

    هناك سورة المائدة 43 “وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله” والمائدة 47 “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه” هاتان الآيتان رخصتا لأهل الكتاب الإحتكام للتوراة والإنجيل في بداية الإسلام ولكن لما تقوى الوازع الديني الإسلامي وأسلم كثير من أهل الكتاب ألغى الله تعالى ونسخ المائدة 43 و 47 بالمائدة 48. “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق” والمائدة 49 “وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك”طبقا لما جاء في المائدة 48 و 49 فإن القرآن عدل ونسخ كثيرا من أحكام التوراة والإنجيل وهو الشرع والكتاب السماوي الوحيد الملزم للناس في العالم كافة ومنهم أهل الكتاب والنصارى واليهود. والدليل المائدة 48 ” مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه” وعبارة “ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك” الله تعالى أمر رسوله بالحذر من أهل الكتاب وأمره أن يطبق عليهم القرآن ويحكم بينهم بأحكامه. وقد جاء في المائدة 15 قبل ذلك ما يلي “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” والأعراف 157 ” الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” لهذا لا يؤمن أهل الكتاب ولا يفلحون إلا إذا آمنوا بالقرآن وعملوا به. والدليل محمد 2 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم”. و القصص 52-53 “الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا ابتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين”. والفرقان 1 “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا”. فالقرآن نذير لكل إنسان في العالم. والأعراف 158 “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” وسبأ 28 “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا” وآل عمران 20 “وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا” وآل عمران 19 “إن الدين عند الله الإسلام” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” والتوبة 33 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله” فالقرآن شرع الله الناسخ لما سبقه من كتب سماوية أمر الله رسوله بأن يطبقه على كافة الناس ومنهم أهل الكتاب. ومن الأدلة : الأنفال 39 ” وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” الفتح 16 “تقاتلونهم أو يسلمون”. لهذا فإن المائدة 43 و47 منسوختان وحكمهما ملغي وفي حكم العدم رغم بقائهما مكتوبتين في مصحف القرآن. لهذا كل من يقيم في دار الإسلام ملزم بالإيمان بالقرآن والعمل بأحكامه الشرعية وحدوده. و السلطة الإسلامية ملزمة بأمر من الله تعالى الوارد في كثير من الآيات ومنها المائدة 48-49 بالحكم بين كافة الناس بالقرآن.

ومن الآيات المنسوخة في القرآن النجم 32 “الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم..” والنساء 31 “إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم”. حسب هاتين الآيتين لا يعاقب الله الناس عن صغائر الذنوب والسيئات إذا اجتنبوا الكبائر منها. هذه الرخصة كانت في بداية الإسلام حيث خفف الله عن المسلمين لكي يتقبلوا الدين. و لما تقوى الوازع الديني ألغى الله تعالى هذه الرخصة وجعل الناس ملزمين بعدم ارتكاب الكبائر والصغائر معا حيث خصص العقاب لكل السيئات صغائر وكبائر. الأحكام التي نسخت النساء 31 والنجم 32 هي النساء 123 “من يعمل سوءا يجز به” والزلزلة “إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض مثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” والقمر 52-53 “وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر” والجاثية 28 “اليوم تجزون ما كنتم تعملون” والطور 21 “كل امرئ بما كسب رهين” والمدثر 38 “كل نفس بما كسبت رهينة” ويونس 61 “ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين”. فاحذروا ارتكاب صغائر الذنوب أيها المسلمون فإنكم محاسبون عليها وتوزن في ميزان أعمالكم في الآخرة بعد البعث وتعاقبون عليها مثل الكبائر وقد صدق من قال “إن الجبال تكونت من تجمع الحصى” فالصغائر إذا كثرت تذهب الحسنات وتخول صاحبها جهنم. فالنساء نزلت بعد النجم بالمدينة. والزلزلة نزلت بالمدينة بعد النساء والنجم. لهذا فالتعارض بين الزلزلة والنساء والنجم دليل على نسخ اللاحق في النزول للسابق له. ولهذا فالصغائر من الذنوب يحاسب عليها مرتكبها مثل الكبائر. وهناك مثال آخر في سورة النساء 8 “وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا”. هذه الآية فرض فيها الله تعالى على الورثة إعطاء نصيب من تركة الميت لأولي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا القسمة.

ولكن نزلت بعد هذه الآية النساء 11 “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” والنساء 12 هي أيضا خصصت التركة للورثة بعد أداء الدين الذي هو مستحق على الهالك والوصية التي قد يوصي بها. كما أن آيات الإرث قد جعلت بعض الأقارب من الورثة في حالة عدم وجود أولاد ذكور للهالك. لم تنص آيات تقسيم التركة على واجب إعطاء نصيب لمن حضرها من أولي القربى واليتامى والمساكين. بل ألغت هذا الواجب الذي كان مفروضا في النساء 8 المذكورة. لهذا فإن آية النساء 8 في حكم العدم وملغاة وليس لها أساس إلزامي رغم بقائها مكتوبة ومقروءة في مصحف القرآن. وهناك مثال آخر عن النسخ الصحيح في القرآن في البقرة 240 “والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج. فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف”.

    فرض الله تعالى طبقا لهذه الآية متاعا لزوجة المتوفى حيث تبقى سنة إن رغبت في ذلك في بيت زوجها المتوفى وينفق عليها من تركته. ولكن نزلت آية بعدها هي آية الميراث النساء 12 “ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين” كما أن المتوفى عنها قد ترث من تركة أقاربها إن لم يكن لهم ولد ذكر. فالوارث لا وصية له. ولهذا ألغيت الوصية للمتوفى عنها. بل يمكنها الزواج بعد انقضاء عدة المتوفى عنها وهي أربعة أشهر وعشرا أو وضع حملها إن تركها زوجها حاملة منه. ولكن إذا وضعت الحامل قبل عدة المتوفى عنها المذكورة فلا يجوز لها الزواج إلا بعد مرور هذه المدة أي أربعة أشهر وعشرا احتراما لشعور وعواطف أقارب الزوج الهالك وجيرانه وأصدقائه.

وهناك سورة المجادلة 12 حيث نسختها آية المجادلة 13 فقد جاء في المجادلة 12 “يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم “. وجاء في المجادلة 13 “أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله. والله خبير بما تعملون”

بعد مقارنة الآيتين المذكورتين في سورة المجادلة يتأكد أنهما متعارضتان ومتناقضتان ولا يمكن الجمع بينهما في التنفيذ والالتزام. لهذا طبقا لنظرية النسخ في القرآن فإن الآية اللاحقة في النزول تلغي الآية السابقة لها في النزول أيضا وليس حسب ترتيب المصحف.

لهذا فتقديم الصدقات عند مناجات الرسول قد نسخ بالقرآن والمسلمون الذين يناجون الرسول عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه غير ملزمين بالحكم الشرعي الذي فرضها في المجادلة 12.

    هذه أمثلة عن حالات نسخ آيات في القرآن بآيات أخرى لاحقة لها في النزول ذكرتها حسب قدرتي المتواضعة على تدبر القرآن واستنباط أحكامه الشرعية وهي أربع آيات منسوخة. وقد استبعدت جميع الآيات التي وقع عليها فقط تعديل جزئي حيث المطلق وقع عليه تقييد والعام وقع عليه تخصيص. وهذا ليس بنسخ. كما أن كثيرا من الآيات يتعلق تنفيذها بأوضاع وأسباب وحالات خاصة بها ورغم تعارضها وتناقض أحكامها الشرعية فليس بينها نسخ بل كل آية متعلقة بظروفها.

وقد اعتبر كثير من مفسري القرآن الآيات التي وقع بينها تعديل جزئي كالمطلق والمقيد والعام والخاص من الآيات المنسوخة وهذا خطأ يسئ بعلم تفسير القرآن. وسوف أبين أمثلة على ذلك.

2 : أمثلة عن ادعاء نسخ خطأ في آيات من القرآن 

قال بعض مفسري القرآن أن المزمل 1-4 نسختها المزمل 20 وهذا غير صحيح وسأبين الأدلة على ذلك. جاء في المزمل 4-1 “يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا” الحكم الشرعي في هذه الآيات يفرض على الرسول عليه الصلاة والسلام القيام للصلاة وقراءة القرآن في جزء مهم من الليل. ولكن الصحابة بفضل قوة وازعهم الديني وإخلاصهم لله تعالى اتبعوا الرسول وقلدوه فأقاموا معه الليل. فنزلت بعد ذلك المزمل 20 وفيها “إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلتي الليل ونصفه وثلته وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن. علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة…” بين الله تعالى أن فريضة قيام الليل واجبة على الرسول وحده وأنها مستحبة حسب القدرة الصحية وتوفر الوقت إن لم تكن هناك ظروف قاهرة مانعة لباقي المسلمين غيره ومن أسباب هذا التخفيف المرض والعمل لكسب الرزق الحلال والمشاركة في حرب الجهاد في سبيل الله عز وجل وقوله تعالى في سورة الحج 78 ” و ما جعل عليكم في الدين من حرج” والبقرة 185 “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”. ومن الآيات التي جعلت قيام جزء من الليل مستحبا للمسلمين غير الرسول حسب قدرتهم واستطاعتهم الزمر 9 “أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب” ومن الآيات التي أكدت بأن قيام الليل مفروض على الرسول وحده سورة الإنسان 26 “ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا”. فآية الزمر 9 والإنسان 26 نزلتا بعد المزمل 4-1 و 20. لهذا فان المزمل 20 لم تنسخ المزمل 41 كما ادعى بعض مفسري القرآن بل وقع إعفاء المسلمين من قيام جزء من الليل وبقي ذلك مستحب لهم حسب استطاعتهم وملزما للرسول وجوبا. وقد بينت الأدلة والبراهين على خطأ ادعاء النسخ في هذه السورة أي المزمل.

    وهناك مثال آخر على ادعاء النسخ خطأ في الأنفال 65-66. فليس هناك نسخ بين الآيتين بل تعديل جزئي وهو أن المطلق تم تقييده. وسأعطي الأدلة على ذلك جاء في الأنفال 65 “يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون” وجاء في الأنفال 66 “ألآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين”. فمن شروط نسخ آية لأخرى التعارض بينهما تماما وإلغاء الآية اللاحقة في النزول للسابقة بكاملها. وهذا الشرط غير محقق في الأنفال 65 والأنفال 66. بل الأنفال 65 فيها حكم مطلق وهو أن كل محارب من المسلمين ملزم بمقاتلة عشرة من الأعداء فتم تقييد هذا الحكم الشرعي المطلق بحكم مقيدله في الانفال 66 وهو أن المقاتل المسلم ملزم بمواجهة ومحاربة عدوين فقط.لم ينسخ الله تعالى أمره للرسول الكريم بتحريض المؤمنين على القتال الوارد في الأنفال وهناك مثال آخر في البقرة 184 “أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خيرله. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون.” قال البعض بأن هذه الآية منسوخة بالبقرة 185 “فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر”. والأدلة الشرعية تدل على عدم وجود نسخ في هذه الحالة ومنها أن الله تعالى أكد بأن النسخ لا يكون إلا بين آية وأخرى بحيث تلغي الآية السابقة في النزول بكاملها لقوله تعالى في البقرة 106 “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير”. الذي وقع في البقرة 184 و 185 هو أن رخصة الاختيار بين الصوم وبين عدم الصوم بشرط إطعام مسكين عن كل يوم “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” تم إلغاؤها بالبقرة 185 التي جعلت صوم شهر رمضان ملزما وواجبا على كل مسلم بالغ سن التكليف إذا لم يكن مريضا أو على سفر أما إذا كان مريضا أو على سفر فله الخيار في عدم الصوم ولكن يجب عليه القضاء بعد انتهاء شهر رمضان. ففي البقرة 184 و 185 تعديل جزئي هو أن الحكم الشرعي بوجوب صوم رمضان كان خاصا ببعض المسلمين الذين لم يؤدوا فدية إطعام مسكين لكل يوم. وحكمة الله أنه فضل إطعام الفقراء الجائعين وكانوا كثيرين. و طبقا للآية اللاحقة البقرة 185 أصبح صوم رمضان حكما شرعيا ملزما وعاما ومطلقا بالنسبة لكافة المسلمين البالغين.

    وهناك مثال آخر عن ادعاء نسخ غير صحيح في القرآن في البقرة 284 “لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله” ادعى كثير من العلماء أن هذه الآية منسوخة بسورة البقرة 286 “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” والتغابن 16 ” فاتقوا الله ما استطعتم ” وهذا ادعاء لا أساس له من الصحة لأنني سأبين الأدلة الشرعية على أن البقرة 284 محكمة وغير منسوخة وهي التالية إن وسع النفس وقدرتها واستطاعتها تتعلق بالحالة الصحية والعقلية والنفسية للإنسان ولا تتعلق بالاختيار بين فرائض الإسلام وحدود القرآن التي هي ملزمة لكل إنسان كيفما كانت حالته الصحية ووسعه وقدرته. فالشيخ المريض العاجز لا يمكن القول عنه إذن إذا استمر في النظر إلى النساء أنه لم يستطع ولم يكن في وسعه غض بصره التزاما بسورة النور 30 ” قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون” فهو مرتكب لذنب يحاسبه عنه الله تعالى لأنه يعلم أنه زنا بقلبه وعينه والالتزام بحدود القرآن الواجب شرعا لا يؤثر عليه وسع النفس وقدرتها والاستطاعة الصحية.

    والشيخ الأعمى الذي وضعت عنده أمانة وفكر في عقله بأن يخفيها ويدعي أنها سرقت منه قد ارتكب إثما لأن الله يعلم ما فكر فيه و الدليل النحل 19 “والله يعلم ما تسرون وما تعلنون” والنساء 58 “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها”، فإذا فكر الإنسان في الشر والمنكر يحاسبه الله عليه ويعاقبه إن لم يتب. فقد يفكر شخص في اختطاف امرأة للزنى بها وسرقة مجوهراتها لما بدأ تنفيذ جريمته فاجأه زوجها فهرب. فهو أبدى ما فكر في نفسه ويستحق عقاب الله تعالى و محاسبته عنه. وقد يشاهد شيخ هرم مقعد ومريض مرضا مزمنا رجلا يقتل آخر فإذا أنكر شهادة القتل فإن الله يحاسبه ويعاقبه لقوله تعال في البقرة 283 “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم” و آل عمران 29 ” قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله”.

وهناك دليل آخر على خطأ إدعاء نسخ البقرة 284 نجده في سورة المائدة 89 “لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان”. والله تعالى هو الذي يعلم اعتقاد الحالف هل حلف عن صدق أم عن غير صدق فإذا كان حلفه عن صدق وحنت فإنه آثم قلبه ويؤاخذه الله تعالى عن يمينه ويعاقبه عن حنته إذا لم يكفر عنه حسب شروط الكفارة المحددة في المائدة 89. والمنافقون يقولون ما يخالف اعتقادهم في قلوبهم ونفوسهم يتظاهرون بالإيمان ويخفون الكفر عن الناس. والله تعالى يعلم نفاقهم وكفرهم وقد خصص لهم جهنم والدليل النساء 145 “إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار” والأنعام 117 ” إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين” الله تعالى يعلم ما في نفس الإنسان من إيمان أو ضلالة أو كفر. فهو يحاسب كل إنسان ويجازيه عما يعتقد في قلبه من إيمان أو ضلالة. و الدليل العنكبوت 11 “وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين”.

و الله يعلم الصادق من الكاذب لأنه يعلم ما في كل نفس وما في القلب والفكر والعقل. والدليل الفتح 11 “يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم” والفتح 18 “فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا” والبقرة 10 “في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون” أليس هذا عقاب ومؤاخذة من الله لما يخفي المنافقون في نفوسهم. والأنفال 70 “إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا” إن هذه الآيات أكدت أن البقرة 284 لم تنسخ نهائيا بل تؤكد وتدعم وتفسر وتبين حكمها الشرعي.

     لهذا فإن البقرة 284 غير منسوخة نهائيا ومن ادعى نسخها فإنه يريد فتح الباب على مصراعيه أمام تسلط القلوب وهوى النفس الأمارة بالسوء والشهوات الغير المشروعة على العقول وطغيان الجوارح والخواطر والعواطف والظلم والطغيان فليكن لذيكم عقل قرآني أيها المسلمون يتحكم في الهوى والجوارح ولا يفكر إلا في ما يرضي الله.

 وهناك مثال عن ادعاء  نسخ غير صحيح في البقرة 180 “كتب  عليكم ادا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين ” .

قال بعض مفسري القران بغير حق ولا دليل صحيح بان السنة النبوية نسخت سورة البقرة 180 و ذلك بحديث ذكره ابن ماجة في سننه 905/2 “لا وصية لوارث”. وهذا الإدعاء غير صحيح لأن السنة تبين القرآن ولا تنخسه أبدا ولا ينسخ القرآن إلا القرآن. و أدعوكم لقراءة الأدلة التي بينتها في بحث نشرته في موقعي المذكور بالانترنت حول موضوع “علاقة السنة بالقرآن “.

    فليس هناك نسخ كامل للبقرة 180 بل تخصيص للحكم العام الوارد فيها. ولم تلغ الوصية لغير الورثة بل بقيت مفروضة للأقارب في حالة عدم وجود الورثة لأن تركة الهالك جعلها الله تعالى ملكا لورثته بعد موته والدليل عن الحكم الشرعي المخصص لحكم البقرة 180 هو حكم النساء 11 “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” والنساء 12 “ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين.” و حيث قسم الله التركة بين الورثة فلا تجوز شرعا الوصية لأحدهم. و لهذا فالحديث المذكور أعلاه “لا وصية لوارث” مفسر للنساء 11 و 12 وليس ناسخا للبقرة 180 كما ادعى أعداء الإسلام بغير حق.

و الوصية بقيت مفروضة في البقرة 180 لصالح الأقارب إذا لم يكن هناك ورثة شرعيين. والدليل التأكيد على الوصية في النساء 11 والنساء 12 والمائدة 106 “يا أيها الذين ’آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت…”. فالوصية واجبة ولم تنسخ لغير الورثة من الأقارب. لهذا فإن سورة البقرة 180 معدلة جزئيا حيث خصص حكمها العام ولم تنسخ.

وهناك مثال آخر عن ادعاء النسخ بغير حق في النساء 15 “واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا”. فطبقا لحكم هذه الآية الشرعي تسجن الزانية التي تبث زناها شرعا في البيت إلى أن يتوفاها أجل الموت أو يجعل الله لها سبيلا. قال بعض مفسري القرآن أن هذه الآية نسخها حديث ذكره مسلم في مؤلفه “الحدود” 2/48 وهو “خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر مئة جلدة وتغريب عام والثيب بالثيب الرجم”. و لكن هذا الحديث غير صحيح ولا يمكن إسناده للسنة النبوية لأنه مخالف للقرآن. ولا يجوز شرعا أن ينسخ آية من القرآن إلا الله تعالى. والخطير في هذا الحديث المزعوم أنه ادعى بأن الله تعالى هو الذي شرع التغريب والرجم. وهذا كذب على الله تعالى لأنه لا سند له في نصوص القرآن. بل السبيل الذي جعله الله تعالى للزانية نصت عليه النور 2-3 ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ”.

    لهذا فالنساء 15 المذكورة منسوخة بالنور 2-3 وليس بالحديث المذكور أعلاه. لهذا لا يجوز التصديق بما نسب للسنة إذا كان مخالفا للقرآن لأن أعداء الإسلام نسبوا كثيرا من الأحاديث كذبا وزورا للرسول عليه الصلاة والسلام لتحريف القرآن والمس بقيم الإسلام وشريعته الحكيمة وأحيلكم على بحث نشرته في موقعي بالانترنت المذكور حول موضوع “علاقة السنة بالقرآن”

 وهناك مثال آخر عن ادعاء نسخ بالسنة وعدم فهم الحكم الشرعي الوارد في النساء 24 “وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما”.

    لقد فهم بعض المفسرين هذه الآيات خطأ أو عمدا فأباحوا ما حرم الله تعالى وهو زواج المتعة أو المسيار المؤقت والمحدد بأجل قضاء متعة لفترة معينة يفسخ بعدها عقد الزواج وقد ادعوا أن هناك حديثا أخرجه مسلم فيه أن الرسول أذن للناس بزواج المتعة المؤقت وأنه حرمه في حديث آخر هو “أيها الناس كنت أذنت لكم في الإستمتاع ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة” وهذا كذب على الرسول لتبرير زواج المسيار المؤقت لإخفاء الزنا وتبرير ما هو حرام شرعا. وقال آخرون بأن النساء 24 منسوخة بآيات الطلاق والعدة والميراث.

    ولكن النساء 24 المذكورة محكمة وليست منسوخة نهائيا وليست سندا لتبرير زواج المسيار المؤقت الذي هو إخفاء للزنى. فقد أحلت هذه الآية النساء 24 للمؤمن الزواج الشرعي من غير المحرمات المذكورة في النساء 23 ويشرط الإحصان دون السفاح أي إبرام عقد الزواج المشروع الدائم دون زنى. وعبارة “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة” الواردة في النساء 24 تعني الاستمتاع في إطار عقد الزواج الدائم. فكل زوج يستمتع بزوجته وكل زوجة تستمتع بزوجها طبقا لعقد الزواج المشروع. والأجور في الآية تعني المهر الذي هو من شروط صحة الزواج. ولا يعني الأجر الذي يسلمه الزاني للزانية. والدليل البقرة 236 ” لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة…” الممتحنة 10 “ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن” والنساء 25 “فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أحذان” فالفريضة والأجر في الآيتين تعني المهر الواجب على الزوج شرعا لصحة عقد النكاح.

وعبارة “ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة” الواردة في النساء 24 المذكورة لا يجوز شرعا أن تكون سندا لزواج المسيار المحرم شرعا. بل التراضي يتعلق بقيمة المهر وكيفية أدائه مسبقا أو مؤخرا بقدر مالي أو أشياء أخرى كالذهب والفضة أو خدمات وغيرها مما هو حلال. و لا يجوز شرعا للزوجين أو غيرهما التراضي حول أي شرط مخالف لحدود وأحكام القرآن الشرعية. و من حدود القرآن أن العلاقة الزوجية مقدسة ودائمة وأبدية في الدنيا والآخرة إلا إذا أتت الزوجة بفاحشة مبينة أو حصل لها ضرر من الزوج. فالعلاقة الزوجية مستمرة حتى بالآخرة بالنسبة للزوجين المستحقين للجنة أما أهل جهنم فلا حياة زوجية لهم فيها أبدا لأنهم في العذاب الدائم ومربوطون في السلاسل والأغلال والدليل : الرعد 23 “جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم” والشورى 45 “إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة” وهم أصحاب جهنم الذين يخسرون زوجاتهم وأبناءهم. لهذا لا يكون الزواج مشروعا إلا إذا كانت مدته دائمة وغير محددة بفترة معينة كما في زواج المسيار المحرم شرعا.

وهناك مثال آخر عن اعتقاد خاطئ للنسخ في البقرة 115 “ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فتم وجه الله”. قال بعض مفسري القرآن بأن هذه الآية نسختها البقرة 144 “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره”. والحقيقة أن البقرة 115 محكمة وغير منسوخة لأن من شروط النسخ بين آيات القرآن أن تلغى الآية المنسوخة بكاملها ويسقط إلزامها وتكون ملغاة رغم بقائها مكتوبة ومقروءة في مصحف القرآن. ولا يجوز شرعا إنكار الحكم الشرعي الوارد في البقرة 115 بل هو غير منسوخ وساري المفعول ومؤكد لحقيقة ملزمة للناس وهي أن الله تعالى رغم استوائه على العرش فوق السماء السابعة فإنه مع كل إنسان في كل مكان وزمان وعلى الدوام بتصرفه وسمعه وبصره وعلمه وكلامه والدليل الحديد 4 “وهو معكم أينما كنتم” و النساء 108 “يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم” وللمزيد أحيلكم على دراسة نشرتها بموقعي المذكور بالانترنت حول موضوع : “من هو الله تعالى وأين هو”.

    فأينما اتجه كل إنسان سواء جهة الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب أو نحو السماء فتم الله تعالى بتصرفه وبصره وسمعه وعلمه وكلامه. وإذا كانت البقرة 144 قد فرضت توجه المصلين إلى الكعبة بمكة المكرمة فليس معنى ذلك أن الله عز وجل في هذا المكان فقط، بل تصرفه وعلمه وسمعه وبصره يشمل كل مكان في هذا الكون الذي خلقه سواء في الدنيا أو الآخرة ومن الآيات المؤكدة لما سبق النور 42 “ولله ملك السماوات والأرض و إلى الله المصير ” و الزخرف 84 “وهو في الأرض إله وفي السماء إله” فأينما توجه الإنسان وأينما كان في هذا الكون كله سواء في الدنيا أو الآخرة فإنه يتوجه إلى الله وهناك تصرف الله تعالى وسمعه وبصره وعلمه. إنه يسمع ما يقول كل إنسان في العالم وأينما كان وفي كل زمان. ويرى ما يعمل كل إنسان أينما كان وفي كل وقت وباستمرار ويعلم ما يفكر فيه كل إنسان أينما كان وفي كل وقت وباستمرار.والدليل الحديد 4 “وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير” والأنبياء 110 “إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون” والزخرف 80 “أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون” وق 16-17 “ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه”.

   لهذا أخطأ الذين ادعوا بأن البقرة 15 منسوخة. فقد أنكروا بذلك تصرف الله تعالى في كل مكان وزمان. و هذا كذب على الله تعالى الحاضر في كل مكان وزمان ببصره وسمعه وعلمه وتصرفه وكلامه.

    وهناك ادعاء آخر للنسخ خطأ في النساء 43 “يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء  أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا”. وأقول بأن رخصة الصلاة بالجنابة في حالة السفر ألغتها المائدة 6 التي منعت الصلاة بالجنابة في حالة السفر.

    وقد ادعى بعض مفسري القرآن بأن النساء 43 نسختها المائدة 90 “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون”. وهذا الإدعاء غير صحيح لأن النسخ يكون بين آية وآية أخرى حيث تلغي اللاحقة السابقة بكامل أحكامها الشرعية. و المائدة 90 ألغت جزءا من النساء 43 فقط وهو ما يتعلق بتحريم الخمر بصفة دائمة سواء أثناء الصلاة أو غيرها. فهناك علاقة تعديل جزئي بين النساء 43 والمائدة 90 وليس هناك نسخ بينهما أبدا. و هناك مثال آخر عن ادعاء نسخ غير صحيح بين آيات كثيرة في القرآن في حين أنها غير منسوخة بل محكمة وملزمة إذا توفرت الظروف والأسباب التي شرعها الله تعالى من أجلها. ورغم تعارض هذه الآيات مع بعضها فليس هناك نسخ بينها وكلها محكمة وملزمة.

إذا كان الحكم الشرعي متعلقا بسبب وعلة محددة يكون ملزما إذا تحققت أسبابه وعلته. مثلا النساء 43 والمائدة 6 المتعلقتين بالوضوء والتيم. فالتيمم لا ينسخ الوضوء. ولكن كل حكم له علته وأسبابه فإذا توفر الماء وجب الوضوء ورفع حكم التيمم. ولكن ليس هناك نسخ بين الحكمين. وهناك أحكام شرعية خاصة بحالات وأشخاص معينين. فبزوال هذه الحالات وموت الأشخاص الذين يهمهم الحكم الشرعي يصبح هذا الأخير في حكم العدم وغير ملزم لأحد. وكمثال الأحزاب 53 “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب” هذا حكم يفرض الحجاب الكامل أي النقاب على الوجه بالنسبة لزوجات الرسول فقط ولا يلزم باقي المؤمنات. بل غير زوجات الرسول يجب عليهن شرعا عدم إخفاء الوجه. والطور 49 “ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم”. هذا حكم فرض على الرسول قيام الليل. ولكنه لا يلزم باقي المؤمنين. فقيام الليل بالنسبة لهم اختياري ومستحب ونافلة. هذه الأحكام الشرعية الخاصة بالرسول وزوجاته ليس لها بعد موتهم أي أثر إلزامي رغم وجودها في المصحف القرآني. وليس لها نسخ لأن النسخ في القرآن هو تبديل أحكام آية سابقة في النزول بأحكام آية لاحقة لها في النزول ومتعارضة معها.

و هناك آيات متعارضة فيما بينها في القرآن ولا تنسخ بعضها لأن كل آية وضعت لأسباب وعلة وظروف خاصة بها بأمر من الله تعالى لحكمة يعلمها. ومنها تلك الآيات التي أمرت المسلمين بالصبر والتريت والصفح وعدم محاربة الكفار في حالة ضعف المسلمين وقلة عددهم  وعدم توفرهم على السلاح الكافي لمواجهة الأعداء لأن الله تعالى أمرهم بأن لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة والدليل البقرة 195 “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” و النساء 71 “خذوا حذركم” و البقرة 185 “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” ويونس 99 “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” والبقرة 109 “فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره” والسجدة 30 ” فأعرض عنهم وانتظر ” والصافات 174 “فتول عنهم حتى حين” ويونس 109 : “واصبر حتى يحكم الله”.

و لكن لما تقوت الدولة الإسلامية أمر الله تعالى المسلمين بمقاتلة الكفار والدفاع عن دار الإسلام وطردهم منها إذا لم يتوبوا. والدليل التوبة 29 “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله ولا يدينون دين الحق” والبقرة 193 “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” والبقرة 191 ” وَاقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ وَالۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ الۡقَتۡلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمۡ عِندَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمۡ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمۡ فَاقۡتُلُوهُمۡ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ الۡكَافِرِينَ ” والفتح 16 “تقاتلونهم أو يسلمون” وآل عمران 19 “إن الدين عند الإسلام” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”. و الأنفال 65 “يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال” والفتح 29 “محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم” والبقرة 194 “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم”. فقد أمر الله بالحرب الدفاعية للدفاع عن الإسلام والمسلمين ودار الإسلام وحرم الحرب العدوانية ولو على غير المسلمين.

    وهذه الأمثلة التي بينتها حول الادعاء الخاطئ في نسخ آيات في القرآن على سبيل المثال فقط لأن هناك الكثير الذي لم أتعرض له في هذا البحث.

3- أمثلة تطبيقية من القرآن عن المحكم والمتشابه

   القرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات لقوله تعالى في سورة آل عمران 7 “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله. و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب”.

  في إطار تفسير هذه الآية تفسيرا صحيحا يخالف ما ذهب إليه كثير من مفسري القرآن سأعرف أولا المحكم والمتشابه من آيات القرآن وثانيا أعطي مبررات المتشابه وثالثا أمثلة عن آيات محكمة وأخرى متشابهة في القرآن ورابعا أعطي الأدلة على أن الناس لا يعلمون تأويل المتشابه إلا في الآخرة بعد البعث.

أولا: تعريف المحكم والمتشابه من آيات القرآن.

  إن كل آيات القرآن محكمة ومتشابهة في آن واحد. فكل آيات القرآن محكمة لأنها متقنة من حيث اللفظ والمعنى وليس فيها خلل ولا عيب ولا تناقض لأن القرآن كله حكمة الله تعالى الذي أنزله للناس كافة في العالم. وما يوجد من تعارض واختلاف بين الآيات المنسوخة والآيات الناسخة لها ليس لها تأثير تشريعي لأن الآيات الناسخة هي الملزمة. والدليل يونس 1 ” ألر تلك آيات الكتاب الحكيم” وهود 1 ” ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير”. الأحزاب 34 ” و اذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة”.

وكل آيات القرآن متشابهة فيما بينها بمعنى أنها تشبه بعضها في الإتقان والترابط وتفسر بعضها بعضا وتشكل بناء تشريعيا موحدا ومتكاملا له أهداف ومقاصد ثابتة ونظام شامل صالح لكل زمان  ومكان حدد الله تعالى مبادئه وقواعده الآمرة في صيغة آيات محكمة ومتشابهة كلها. و الدليل الزمر 23 “الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها”.

  فالآية المحكمة هي التي يفهم الناس حكمها الشرعي ومعناها ويتأكد لهم تأويلها وتجسيدها في الواقع الدنيوي، مثلا البقرة 275 “أحل الله البيع وحرم الربا” و الإسراء 32 “ولا تقربوا الزنى ” الإسراء 33 “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” و البقرة 188 ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”. فالأحكام الشرعية في هذه الآيات المحكمة واضحة الدلالة وتأويلها مفهوم ومحدد للناس ولا تحتمل إلا معنى واحدا. أما الآيات المتشابهة فهي محكمة وحكمة الله تعالى ولكن مدلولها وتأويلها غير محدد وتحتمل عدة أوجه في التفسير ولا يمكن إدراك معناها وتأويلها الحقيقي في الدنيا. يعلمه الله تعالى والمبعوثون في الآخرة. ومنها ما يتعلق بآيات القرآن المتعلقة بالغيب الذي لا نحسه ولا نراه كتلك التي تهم ذات الله العظيمة والجنة وجهنم والبعث والحساب وقيام الساعة الكبرى الختامية وغيرها. فالمتشابه لا يدرك العقل البشري مدلوله الحقيقي في الدنيا. و كمثال الشورى 11 “ليس كمثله شيء” فلا يعلم ذات الله الحقيقية إلا أصحاب الجنة لقوله تعالى في القيامة 22-23″وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”. ومن الآيات المتشابهة الفتح 10 “يد الله فوق أيديهم”. و المائدة 64 “وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء”. لا أحد يعلم أن لله يدان مثل البشر. و لا أحد شاهد يد الله تعالى فوق أيدي المسلمين الذين تهمهم الآية. فالمراد أن الله تعالى أقوى من كل ما خلق. و لكن أصحاب الجنة هم الذين يعلمون هل لله تعالى يدان أم لا. فالمهم أن كل آيات القرآن سواء المحكمة أوالمتشابهة متقنة ولها حكمة صادقة وليس فيها باطل بل هي الحق الذي حكم به الله تعالى بين الناس.

  ثانيا: أمثلة عن آيات محكمة وأخرى متشابهة في القرآن. 

   بعض المفسرين للقرآن قالوا بأن المتشابه ما نسخ في القرآن والمحكم ما لم ينسخ. وهذا خطأ فادح لأن الآيات المنسوخة محكمة ومدلولها واضح ومعناها محدد. و الدليل على أن الآيات المنسوخة ليست من المتشابه أن العلماء فهموها وأدركوا مدلولها الحقيقي وعلاقة النسخ بينها وبين الآيات الناسخة لها. فهي غير ملزمة رغم بقائها مكتوبة ومقروءة في مصحف القرآن. فهي حكمة الله غيرها وبدلها بحكمته وقضائه وقدره لأنه عالم الغيب والشهادة وعالم بمصالح العباد.

  ولهذا سوف أعطي أمثلة عن آيات متشابهة في القرآن وهي آيات لا يدرك أحد في الدنيا تأويلها ومدلولها الحقيقي ولو العلماء وكمثال فاطر 41 “إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا” لا يستطيع أحد معرفة كيف يمسك الله السماوات والأراضي السبع لكي لا تزول وتسقط. ولا يعلم أحد الوسيلة التي يمسكها بها الله تعالى رغم أنه جل وعلا مع كل ما خلق بسمعه وبصره وعلمه وتصرفه وأنه مستوي على العرش فوق السماء السابعة. و لكن رغم جهلنا لهذه الحقيقية في فاطر 41 لأننا لم نلمسها بحواسنا فإننا ملزمون بالإيمان والتصديق بها وبكل الآيات المتشابهة لأنها إخبار من الله تعالى وهو الصادق و الحق ولأنها جزء من القرآن الذي هو صدق وفعلا كلام وشرع الله تبارك وتعالى. والدليل فاطر 144 “و ما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض” ويس 82 “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” و كمثال الزمر 67 “وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون”. فلا أحد يستطيع معرفة كيف تكون الأراضي السبع كلها في قبضة الله تعالى ولا كيف تطوى سبع سماوات بيمينه. وكمثال الفتح 7 “ولله جنود السماوات والأرض” فلا أحد يعلم هل جنود الله تعالى من الملائكة أو من الجن والإنس أو من غيرهم والدليل المدثر 31 “وما يعلم جنود ربك إلا هو” و التوبة 40 “أيده بجنود لم تروها”.

  وكمثال ق 38 “ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب”. لا يعلم أحد كيف خلق الله تعالى سبع سماوات وسبع أراضي وما هي المواد التي خلقها منها  وما هي حدودها وأبعادها. فالعلم لله وحده يتصرف في الكون الذي أوجده وخلقه بعد أن كان وحده في الوجود. وهو قادر على إنهاء كل ما هو موجود وخلق ما يريد. والدليل النساء 133 “إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا” والأنعام 133 “وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء” والمائدة 17 “لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم. قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا” و إبراهيم 19-20 “الم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد”. لهذا يجب الإيمان والتصديق بالمتشابه ولو كنانجهل تأويله ومدلوله.

وكمثال البقرة 255 “وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما”. لا أحد يعلم في الدنيا كيف هذا الكرسي وحجمه ومواد صنعه رغم أن هناك كراسي في واقعنا الدنيوي. فهل يعني كرسي الله تعالى أن سلطانه وقضاءه وقدره وتصرفه يشمل كل السماوات والأراضي وما فيها. فعلم ذلك لله وحده. وكمثال الأعراف 145 “وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء”يتعلق الأمر بالثوراة التي أنزلها الله تعالى على رسوله موسى عليه وعلى كل رسله صلاة الله وسلامه. لا يعلم أحد هل كتب الله تعالى الثوراة في الألواح بنفسه أو بواسطة الملائكة ولا ندري كيف هذه الألواح وهل تشبه الألواح التي يكتب فيها القرآن في الدنيا وبماذا كتبت وهل أنزلها الله تعالى بواسطة الملائكة أو بتصرفه المباشر. وكمثال هود 7 “وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا”. لا ندري كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله تعالى وكيف أنه فوق الماء ويسع السماوات والأراضي السبع لقوله تعالى في البقرة 255 “وسع كرسيه السماوات والأرض” هل معنى ذلك أن عرش الله على الماء يعني قدرته وسلطانه في التصرف في الماء من حيث الخلق والإنزال أو المنع لابتلاء الناس لأن حياة كل المخلوقات الحية تتوقف على ماء الله تعالى وهوائه ومنها الإنسان. هذه الحقيقة مؤكدة علميا و طبيا وتجريبيا.

و كمثال القمر 14 “تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر” والطور 48 “واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا”. لا يمكن أن نشبه ذات الله العظيمة بالبشر ولا يمكن القول أن له عينين مثلنا.فلا يعرف ذات الله العظيمة إلا أصحاب الجنة في الآخرة و الدليل القيامة 22-23 “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة” ولكن أهل جهنم لا يرون الله أبدا. و لكننا نسلم بأن الله سميع بصير متصرف في الكون وما فيه والدليل الشورى 11 ” ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” والأنعام 103 “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار”. الله تعالى يرى ويسمع ويعلم ما في العقل والقلب. و لكن لا نعلم كيف يتم ذلك.

 و كمثال البقرة 115 “ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فتم وجه الله”. لا ندري هل لله فعلا وجه أم المراد تصرف الله تعالى وسلطانه الذي يشمل كل جزء من الكون الذي خلقه. وكمثال الحديد 21 ” سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله”. لا أحد يعلم طول الجنة وعرضها وأرضها وما فيها إلا الله تعالى وأهل الجنة بعد البعث. وهناك مثال الحروف التي بدأت بها بعض السور في القرآن. فقد اعتبرت آيات منفصلة عن غيرها. ولكن لا أحد يستطيع تحديد مدلولها. و معناها و تأويلها إلا الله. و قد حددتها في الجدول الآتي:

لائحة الآيات المتشابهة في بداية سور القرآن

السورة التي وردت في بدايتها الآية المتشابهة
البقرة – آل عمران – العنكبوت – الروم – لقمآن – السجدة ألم
غافر – فصلت – الزخرف – الدخان – الجاثية – الأحقاف حم
الشورى حم – عسق
يونس – هود – يوسف – إبراهيم – الحجر ألر
الرعـد ألمر
مريم كهيعص
الشعراء – القصص طسم
النمل طس
الأعراف ألمص
ق ق
القلم ن
ص ص
يس يس
طه طه
29 سورة المجموع: 15 آية

ثالثا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله تعالى و المبعوثون في الآخرة.

التأويل هو تجسيد ما دار في العقل في الحقيقة والواقع المشهود والملموس فعلا. إذا قيل لنا زاغ القطار عن سكته. فإذا وقفنا أمامه وشاهدناه فعلا وتأكدنا من خروجه عن السكة فقد تأول لنا علميا ذلك الخبر في الواقع الملموس و المشاهد وإذا قيل لنا سرق فلان سيارة فلان فلا نتأكد إلا إذا شاهدنا المسروق عند السارق وكذلك بالنسبة لآيات القرآن. فالآيات المحكمة يتجسد لنا مدلولها وتأويلها في الواقع الذي نشاهده ونحسه مثلا البقرة 185 “فمن شهد منكم الشهر فليصمه”. فعندما نرى هلال شهر رمضان فإننا نبدأ الصيام. والأمثلة كثيرة.

  والآية المتشابهة ليست كالآية المحكمة من حيث فهمها وتأويلها. وليست لها حقيقة في الدنيا مشاهدة وملموسة. ولا يمكن للناس معرفة تأويلها إلا بعد البعث في الآخرة. مثلا الزمر 67 “وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون” و الأعراف187 “يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي”. لا يمكن فهم تأويل هذه الآيات المتشابهة إلا في الآخرة يوم القيامة. ولا يفهمها إلا المبعوثون الذين يشاهدون ذلك حقا.

  هذه الحقيقة الشرعية الدالة على أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله عزوجل والمبعوثون في الآخرة والدالة أيضا على أن الناس ومنهم الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل الآيات المتشابهة في الدنيا هذه الحقيقة أكدتها آل عمران 7 “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا”. و قد أخطأ بعض مفسري القرآن حيث اعتبروا الراسخين في العلم مؤهلين لتأويل الآيات المتشابهة. والواقع أنهم لم يفهموا التفسير الصحيح لسورة آل عمران، أو أرادوا فتنة المسلمين بادعائهم تأويل المتشابه كذبا على الله تعالى.

وأعطي التفسيرالصحيح لسورة آل عمران 7. وهو كما يلي: لا يعلم تأويل المتشابه من القرآن في الدنيا إلا الله تعالى وحده. و الراسخون في العلم لا يعلمونه أبدا إلا بعد البعث في الآخرة. والدليل أن هناك وقف أي نقطة نهاية الجملة بعد عبارة ” وما يعلم تأويله إلا الله”. فاسم الجلالة الله هو المستثنى الوحيد من عبارة “وما يعلم تأويله إلا الله” والراسخون في العلم ليس فيها استثناء. ولو اعتبر ذلك لفسد المعنى. والإعراب الحقيقي ان عبارة “والراسخون في العلم جملة مستقلة لا يتم معناها إلا إذا أضفنا إليها الباقي حيث تكون “والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا”. الراسخون مبتدأ خبره جملة فعلية “يقولون آمنا به”. إذن أكد الله عزوجل أنه وحده يعلم تأويل المتشابه وأن الراسخين في العلم لا يعلمونه ولكنهم يومنون به مثل سائر آيات القرآن لأنه منزل من الله تعالى. فلا يمكن أبدا إدعاء الراسخين في العلم مستثنى معطوف على الاستثناء الأول “الله” ومن قال ذلك جهل قواعد اللغة العربية أو أراد فتنة المسلمين عمدا. وقد حذر الله تعالى الناس من تأويل الآيات المتشابهة في القرآن لأنهم لا يستطيعون ذلك في الدنيا ولكي لا يفتنوا غيرهم ويكذبوا على الله بتأويلهم المفترض الخاطئ. وقد سمى الله هولاء بالذين في قلوبهم زيغ ويتبعون الشبهات من دون الحق. فالذين في قلوبهم زيغ كما جاء في آل عمران 7 غير مومنين حقا ويتأولون ويتخيلون ويتصورون تأويلا خاصا بهم للآيات المتشابهات بهدف فتنة الناس والكذب على الله تعالى حسب هواهم ورغابتهم, وهذا ما حرمه الله تعالى بصريح عبارات آل عمران 7 “ولا يعلم تأويله إلا الله”.

فالآيات المتشابهة من القرآن لا يدرك الناس حقيقتها المجسدة في الواقع بحواسهم كالسمع والبصر لأنها من الغيب. ولا يجوز شرعا تأويل المتشابه استنادا إلى ألفاظ الآية الظاهرة. بل الله تعالى هو الذي يعلم مراده منها. وسأعطي أدلة من القرآن توكد تفسير معنى “وأخر متشابهات” الواردة في آل عمران 7 ومنها: البقرة 70 “ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون”. فبنوا اسرائيل لم يدركوا ولم يعرفوا البقرة التي أمرهم الله تعالى بذبحها ولم يميزوها من بين البقر. كذلك الآيات المتشابهة في القرآن لا يعرف مدلولها وتأويلها في عالم الشهادة. والأنعام 141 ” وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه..” هذه الثمرات تتشابه في اللون والشكل ولكن مذاقها يختلف تماما. فلا يمكن التمييز بينها وتحديدها وإدراك مذاقها ومعرفة الجيد منها إلا بعد إزالة القشرة والاطلاع على المحتوى بالكشف عليه. كذلك الآيات المتشابهة لا يمكن تأويلها وفهم وإدراك حقيقتها إلا بعد البعث في الآخرة.

ومن الأدلة أيضا البقرة 25 “كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها” فرغم أن ثمار الجنة تشبه ثمار الدنيا فإنها مختلفة عنها في الطعم والمذاق. ولا يعلم ذلك إلا أصحاب الجنة بعد البعث. كذلك فإن ألفاظ الآيات المتشابهة قد تشبه بعض الظواهر في الدنيا التي نعلمها ولكنها مخالفة لها في الحقيقة التي نجهلها ولا نعلمها إلا في الآخرة بعد البعث. ومن الأدلة البقرة 118 “وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية. كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم”. فقلوبهم مختلفة عن بعضها ولكن تشابهت من حيث الكفر والشك في وجود الله تعالى. وهناك دليل آخر في الرعد 16 “أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم. قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار”. فالكفار الذين أشركوا بالله تعالى وعبدوا الأصنام ادعوا أن أصنامهم أرباب وأنهم خلقوا لهم ما شاؤوا. ولم يميزوا بين ما ادعواخلقه وبين ما خلق الله تعالى. لهذا فالآيات المتشابهة لا يمكن فهم حقيقتها وتأويلها إلا بعد البعث في الآخرة حيث يشاهدها حقا المبعوثون. ومن الأدلة الموكدة لهذه الحقيقة وللتفسير الذي أعطيته لسورة آل عمران 7 المذكور ما دلت عليه آيات منها يونس 39 “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله” و الأعراف 53 ” هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ” وص 87-88 “إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين “فالناس سوف يتجسد لهم ما في القرآن من أحكام وآيات محكمة ومتشابهة في الآخرة بعد البعث. ويتأكدون فعلا من حقائقها بأبصارهم وسمعهم وكل حواسهم. لأن هناك برزخ يفصل بين أهل الدنيا وأهل الآخرة. والدليل المومنون99-100 “حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت. كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون”. كما أن بصر الإنسان في الدنيا محدود لا يستطيع تجاوز القدرة التي خلقها الله له.

 وعندما يكون الإنسان المبعوث في الدار الآخرة يكون المتشابه في عالم الشهادة مجسدا في الواقع الأخروي. تؤكد ذلك شهادة بعض المبعوثين كما ذكرها الله عزوجل في القرآن. ومنها الأنعام 30 ” ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون” والسجدة 12 “ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا  نعمل صالحا إنا موقنون” فالمبعوثون في الآخرة تأكدوا فعلا وحقا بأن ما شاهدوه وسمعوه وتجسد أمامهم في الدار الآخرة هو فعلا ما ذكر في آيات القرآن سواء الآيات المحكمة أو المتشابهة. وندموا على ما فاتهم في الدنيا حيث لم يصدقوا بالقرآن ومنه الآيات المتشابهة التي لم يعلم أحد تأويلها في الدنيا.

  ومن شهادة المبعوثين كما أخبرنا بها الله عزوجل المدثر 42-47 “ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين” و ق 22 “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. هذا خطاب من الله للمبعوثين في الآخرة حيث أكد لهم أنهم كانوا في غفلة عن شرعه في الدنيا. وفي الآخرة تأكدوا بسمعهم وأبصارهم وحواسهم من تجسيد آيات القرآن المحكمة والمتشابهة أمامهم حقا.

وهناك أيضا غافر 84-85 “فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون” و الأحقاف 34 “و يوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون” و الملك 10 ” لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير” و الأعراف 43 ” لقد جاءت رسل ربنا بالحق”. هذه الآيات تدل على أن تأويل الآيات المحكمة و المتشابهة في القرآن يتجسد أمام المبعوثين فيدركونه بسمعهم و أبصارهم و حواسهم كلها. و يصدقون و يتيقنون من صدق القرآن الذي كذبوا به في الدنيا. و قد يتسآءل البعض عن وجود المتشابه بالقرآن رغم جهل تأويله في الدنيا، و أجيب عن ذلك في النقطة التالية:

رابعا: الآيات المتشابهات ابتلاء للناس

الآيات المتشابهة تتعلق بأخبار الغيب و العقائد و صفات الله تعالى و الآخرة و ما فيها من جنة و جهنم و ما يهم قيام الساعة و غيرها. و رغم أننا لا نعلم تأويل المتشابه فإننا ملزمون بالإيمان به و التصديق به. و الدليل آل عمران 7 “و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا”. فلا يمكن الإيمان بجزء من القرآن و عدم الإيمان بجزء آخر منه. و الآيات المتشابهات جزء لا يتجزأ من القرآن و حكمة من حكمته.

الله تعالى قادر على أن يبين لنا تأويل المتشابه، فلو شاء لأمر ملائكته برفع الناس من الدنيا لرؤية الله تعالى في الآخرة و هو مستوي على العرش فوق السماء السابعة . و لو شاء لبين لهم الجنة و جهنم حقا و واقعا، و الدليل أن الله تعالى رفع بعض رسله إلى السموات بواسطة الملائكة ليتأكدوا من آياته و خلقه للكون و ما فيه. و كمثال الأنعام 75 ” و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين” و لو شاء الله تعالى لهدى الناس أجمعين و لآمن من في الأرض كلهم و الدليل يونس 99 “و لو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا” الله تعالى له قضاء و قدر مطلق عادل و مشيئته مطلقة لأنه هو الذي خلق هذا الكون و ما فيه. و هو قادر على تبديل ما خلق بخلق آخر و إنهاء وجود كل ما خلق و يبقى وحده في الوجود.

لهذا قرر الله تعالى تشريع الآيات المتشابهة في القرآن التي لا يعلم الناس تأويلها و ذلك في إطار إبتلائه سبحانه و تعالى لهم في الحياة الدنيا المؤقتة. فالقرآن بما فيه المحكم و المتشابه هو مادة الإبتلاء و الإمتحان و الإختبار الدنيوي للإنسان الذي استخلفه الله تعالى في الدنيا لإعمار الأرض و لعبادته.

و الله تعالى أخفى الغيب و ما يهم المتشابه عن علم الناس ليعلم من يصدق فعلا بعقله و قلبه بوجود الله تعالى و بصدق القرآن من خلال ملاحظة تصرف الله تعلى في الكون و النفس البشرية، فالمقارنة و الاستنتاج و الملاحظة العلمية كل ذلك يؤكد صدق البراهين و الأدلة على وجود الله تعالى و صدق القرآن. و الأدلة منها الحشر 22 و الجن 26 و النحل 77 و الأنعام 59 و الطلاق 12 و التغابن 18 و التوبة 78.

فالعقل يلعب دورا أساسيا لفهم آيات الله تعالى في القرآن و الكون و الإنسان. و أحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالأنترنت حول موضوع: ” استعمل عقلك أيها الإنسان في كل مكان و زمان لتتأكد من صدق القرآن “. لهذا فرض الله تعالى على كل إنسان عبادته في الغيب و دون رؤية ذاته العظيمة في الدنيا و الدليل: البقرة 2-3 “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب …” و الملك 12 “إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة و أجر كبير ” و الحديد 25 “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب إن الله قوي عزيز”. هذه الآيات أكدت بصدق أن الله تعالى أنزل القرآن كله بما فيه من متشابه و محكم لابتلاء الناس و امتحانهم و اختبارهم و معرفة من يؤمن به في الغيب و يعبده و يلتزم بأحكام و حدود القرآن و ليختار من الناس الفائزين في هذا الابتلاء و الاختبار فيهديهم إلى صراطه المستقيم و لقائه و الحياة الدائمة في سعادة جنته، بينما الخاسرون في الابتلاء و الامتحان هم الكفار و الظالمون ينالون قسما من عذاب الله حتى في الدنيا طبقا لأجل محدد.

و من الأدلة على أن المتشابه من القرآن ابتلاء من الله أنه سبحانه و تعالى يبتلي الناس في الدنيا بتصرفه ليعلم المؤمنين و الكفار، و الصادقين و المنافقين، و من الأدلة على ذلك ما يلي: آل عمران 166-167 و العنكبوت 2-3 “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين” و محمد 31 “و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلو أخباركم” و محمد 29 “أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم” و الأنبياء 35 “و نبلوهم بالشر و الخير فتنة و إلينا يرجعون” و هود 7 “و كان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا” و يونس 14 “ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون” و الملك 1-2 “تبارك الذي بيده الملك و هو على كل شيء قدير الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا و هو العزيز الغفور” و الكهف 7 “إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا” و الأنعام 165 “و هو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم”. بل الشياطين خاضعون لقدرة و قضاء الله تعالى، فلا يغوون الناس إلا برخصة من الله عز وجل في إطار الابتلاء. و الدليل سبأ 21 “و ما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك”.

هذه الآيات دليل قاطع على قدرة الله تعالى على ابتلاء الناس بتصرفه المباشر أو بواسطة جنوده و قد تحقق فعلا في الواقع البشري. لهذا فإن الآيات المتشابهة هي أيضا ابتلاء من الله تعالى للناس، فاستعمل عقلك أيها الإنسان في كل زمان و مكان و تدبر آيات الله تعالى في نفسك و في الكون لتتأكد من وجود الله تعالى و من صدق القرآن بما فيه المحكم و المتشابه و اعبد الله عز و جل فإن لم تكن تراه في الدنيا فإنه يراك و يعلم ما في تفكيرك و قلبك و يسمع أقوالك و يرى أعمالك و يجازيك عنها.

4- أمثلة تطبيقية عن الحكم الشرعي المطلق و الحكم المقيد له:

أ) تعريف المطلق و المقيد:

سأبين تعريف المطلق و المقيد ثم أعطي أمثلة تطبيقية لهما من القرآن، الحكم الشرعي في القرآن هو الحد و الأمر و القانون الذي شرعه الله تعالى ليكون ملزما للناس بحيث يجب عليهم العمل بمقتضاه. و يستنبط من آيات القرآن. هناك حكم مطلق و حكم مقيد له و هناك حكم عام و حكم مخصص له أي وضع عليه استثناء.

الحكم الشرعي المطلق ملزم بكامله دون نقص أو شرط معين أو قيد، فهو دليل على حقيقة شرعية كاملة غير محددة و غير مقيدة أو منقوصة أو مشروطة بشرط معين. فهو قطعي الدلالة في نصه بكامله.

و الحكم الشرعي المقيد هو عكس الحكم المطلق لأنه لم يعد ملزما بكامله، بل وضع عليه قيد أو نقص في جانب من حكمه السابق إما للتخفيف أو لرفع مشقة الإبتلاء. فالحكم المقيد برفع الميم و فتح القاف و كسر الياء يحد من إلزام و نطاق تطبيق الحكم المطلق. و لكن لا ينسخه بكامله بل يعدله جزئيا فقط و لا يلغيه مثل إلغاء الحكم الشرعي الناسخ للحكم الشرعي المنسوخ. و الحكم المطلق الذي نزل في حقه حكم مقيد له يبقى ملزما للناس في الجزء الذي لم يلغه الحكم الشرعي المقيد له، و لكن وجود أحكام مطلقة و أخرى مقيدة لها و أحكام عامة و أخرى مخصصة لها في القرآن ليس فيه أي تناقض، بل إن حكمة الله تعالى و تربيته للمجتمع الإسلامي و ضرورة التدرج التشريعي اقتضت هذه التعديلات الجزئية كما اقتضت نسخ آيات قرآنية بآيات أخرى لاحقة لها. لهذا أخطأ كثير من العلماء منذ عهد الصحابة حتى الآن حيث اعتبروا الحكم الشرعي المقيد و المخصص للآخر من الأحكام الناسخة و هذا غير صحيح.

و الحكم المطلق و المقيد له لهما علاقة في التشريع و مرتبطان ببعضهما و متحدان من حيث السبب و المضمون و الموضوع. فلا يلغي بعضهما البعض ولكن يدخل عليه تعديلا جزئيا فقط من حيث الإلزام. مثلا العنكبوت 57 “كل نفس ذائقة الموت” و البقرة 275 “أحل الله البيع و حرم الربا” ليس بين الحكمين علاقة سبب، موضوع و مضمون. فلا يمكن أن تكون بينهما علاقة التقييد و الإطلاق و النسخ و لكن مثلا البقرة 187 ” أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ” و البقرة 187 ” و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد” فالآية الثانية وضعت قيدا و شرطا على الحكم الشرعي الأول الذي أباح مباشرة الزوجة في خارج وقت الصيام عندما يكون الزوج في حالة اعتكاف لعبادة الله تعالى في المسجد فقد حرم عليه الله تعالى مباشرة زوجته.

و كمثال على حكم مطلق البقرة 223 ” نساؤكم حرث لكم فآتوا حرثكم أنى شئتم ” هذا الحكم المطلق عليه قيد في البقرة 222 ” فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن ” كما أن إتيان الزوجة عليه قيد و هو إتيانها من قبلها و ليس من دبرها لقوله تعالى في البقرة 222 ” فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ” أي مكان التناسل و سأعطي أمثلة أخرى عن المقيد و المطلق.

الحكم المطلق ساري المفعول بكامله كما جاء في نصه القرآني، و الحكم المقيد له اللاحق به في النزول يقيد إلزامه و يجعله ملزما في حدود التقييد فقط. فالمقيد يحد من إلزامية المطلق من حيث محتواه و مضمونه و الحكم المطلق قد يأتي في النزول بعد حكم مقيد فيطلقه حيث يكون المقيد مطلقا أي ملزما بحدود الإطلاق الذي عدله. فالعلاقة بين المطلق و المقيد تهم الحكم الشرعي، أما العلاقة بين العام و الخاص فإنها تهم عدد الأفراد الذين يتعلق بهم الحكم الشرعي.

ب) أمثلة تطبيقية عن المطلق و المقيد في القرآن:

هناك كثير من الأحكام الشرعية المطلقة و الأحكام الشرعية المقيدة لها و هناك الأحكام الشرعية التي جعلت الحكم المقيد مطلقا، و سأعطي أمثلة منها فقط لتوضيح مفهوم و نظرية المطلق و المقيد في أحكام القرآن و كمثال مريم 71 “وإن منكم إلا ورادها كان على ربك حتما مقضيا ” يعني هذا الحكم أن كل مبعوث في الآخرة لا بد أن يمر على جهنم و يراها  و من اكتفى بقراءة هذه الآية  يظن أن كل الكفار والمؤمنين  يدخلون جهنم. و لكن هناك قيد في الآية اللاحقة و هي مريم 72 “ثم ننجيي اللذين إتقوا” فالمتقون المؤمنون الصالحون الذين تقلت موازينهم لا يدخلون جهنم نهائيا وإن رأوها. لأن الله تعالى تكفل بهدايتهم إلى صراطه المستقيم و هو السبيل الذي يؤدي إلى لقائه و الحياة الدائمة في سعادة جنته و حكمة الله من مرور المؤمنين فوق جسر جهنم هو مشاهدتهم للعذاب الذي نجاهم الله منه و تقديرهم لرحمته حيث خولهم السعادة الدائمة في الجنة.

و كمثال الحج 78 “و جاهدوا في الله حق جهاده” هذا الحكم الشرعي قيدته أحكام أخرى منها البقرة 286 “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” و التغابن 16 ” فاتقوا الله ما استطعتم” و الإستطاعة صحية و نفسية و أمنية. لقوله في الحج 78 “و ما جعل عليكم في الدين من حرج ” و البقرة 185 ” يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر” و البقرة 195 ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” و النساء 71 “خذوا حذركم” لهذا فالجهاد فرض على كل مسلم و لكن حسب طاقته. فالمقعد و الأعمى بإمكانهما المساهمة في الجهاد ولو بالقول و الفكر, و الغني المريض يساهم بالمال و الفقير القوي صحيا يجاهد بالنفس و العمل. فهذه الآيات التي ذكرتها قيود على مطلق في الحج 78 “و جاهدوا في الله حق جهاده”.

 و كمثال الأنفال 45 “يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا” هذا الحكم المطلق يلزم المسلمين المجاهدين بعدم الفرار من مواجهة الأعداء كيف كان عدد مقاتليهم و أسلحتهم. و لكن ثم تقييد هذا الحكم المطلق بالأنفال 65 “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين و إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون” بمعنى أن المسلم المقاتل إذا واجه أكثر من عشر مقاتلين له الحق في الهروب للنجاة بنفسه. و لكن هذا القيد وقع عليه تعديل آخر في الأنفال 66 “الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين” فطبقا لهذا التقييد لم يعد المقاتل المسلم ملزما بمواجهة أكثر من مقاتلين من العدو بل له الحق في الهروب للنجاة بنفسه.

و كمثال النحل 44 “و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم” هذا الحكم يلزم الرسول بتفسير و بيان آيات القرآن للناس و لكنه لم يبين من القرآن إلا القليل لأن النحل 64 قيدت مهمته في هذا المجال و فيها “و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدى و رحمة لقوم يؤمنون”. و السبب أن الوازع الديني تقوى في عهد الرسول و كثر العلماء و الفقهاء و أهل الذكر. فأسند الله تعالى لهم مهمة مساعدة الرسول في بيان القرآن للناس و من الأدلة التوبة 122 ” وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” و البقرة 159 و 147 و النحل 43. و لهذا كان الرسول لا يبين من القرآن إلا ما اختلف فيه العلماء و أهل الذكر.

و كمثال هود 12 “إنما أنت نذير” و فاطر 24 “إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا” هذان حكمان مطلقان يعطيان للرسول حق إنذار الناس بما يراه صالحا. و لكن هناك آيات أخرى قيدت أحكامها هذا الحق ففرضت عليه إنذار الناس بالقرآن وحده. و منها الأنعام 19 “و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ”. و الفرقان 1 “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا” و الأعراف 2 “كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به ” و فصلت 2-4 “تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا و نذيرا”. هذه الأحكام الشرعية قيدت مهمة الرسول و حددتها في تبليغ القرآن للناس و إنذارهم بما فيه من حدود و أحكام شرعية و لا يجوز للرسول مخالفة ما أمر الله به. و النتيجة الشرعية لهذا التقييد أن السنة النبوية لا يجوز أن تنسخ القرآن أو تخالفه كما إدعى أعداء الإسلام و الجاهلون الذين اتبعوهم في الضلالة.

و كمثال النساء 43 “لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون و لا جنبا إلا عابري سبيل “. الحكم الشرعي في هذه الآية رخص شرب الخمر في غير أوقات الصلاة و رخص الصلاة بالجنابة من دون اغتسال منها في حالة السفر. و لكن المائدة 90 ألغت رخصة شرب الخمر و حرمته نهائيا، و فيها “إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه” كما أن رخصة الصلاة بالجنابة في حالة السفر ألغتها المائدة 6 “يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إلى الكعبين، و إن كنتم جنبا فاطهروا”.

و كمثال البقرة 183 “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم” فهذا حكم مطلق يلزم كافة المؤمنين المكلفين بصيام شهر رمضان. و لكن هناك حكم شرعي مقيد لهذا المطلق البقرة 184 “فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر” و كمثال هناك سورة يس 47 ” أنفقوا مما رزقكم الله” و سورة الحديد 7″ و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” في هاتين الآيتين حكمان مطلقان فيهما أمر الله بالتصدق على المسلمين المحتاجين لسبب خارج عن إرادتهم. و لكن هذا المطلق مقيد بسورة الإسراء 29 “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا” و البقرة 195 “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين” فلا يكون الإنسان بخيلا فعليه الصدقة و الإنفاق في الحلال لقوله تعالى في التغابن 16 ” و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ” و لا يكون مسرفا و مبذرا لقوله تعالى في الأسراء 27 “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” فعلى الإنسان ألا ينفق كل ما عنده بل يجب عليه الاحتياط و الاقتصاد المشروع.

و كمثال المائدة 95 ” لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم” و المائدة 1 ” أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد و أنتم حرم” هذان حكمان مطلقان يحرمان كل صيد سواء في البر أو البحر أو الجو بالنسبة للمحرمين للعمرة أو الحج. و لكن هناك تقييد لهذا المطلق في المائدة 96 ” أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون” لهذا أحل الله صيد البحر و لو كان الإنسان محرما للعمرة و الحج و لا يجوز له صيد البر إلا بعد التحلل من الإحرام.

و كمثال هناك النساء 3 “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلات و رباع “فهذا حكم مطلق أعطى الحق للمسلم بأن يتزوج بمن يشاء من النساء في حدود الحد الأقصى و هو أربعة. و لكن هناك محرمات من الزواج في النساء 23-24 و كذلك هناك قيد على النساء 3 يفرض الزواج بالمسلمة في النساء 25 “و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات” و هناك قيد سابق بفرض الزواج بالمسلمة و يحرم الزواج بغير المسلمة في البقرة 221 “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و لأمة مؤمنة خير من مشركة و لو أعجبتكم” و التحريم 6 “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا “. و من القيود على تعدد الزوجات أن الله فرض إقامة العدل بينهن. و الدليل النساء 3 “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” و النساء 129 “فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة”. لهذا فحكم تعدد الزوجات في النساء 3 ليس مطلقا بل عليه قيود شرعية. و الزوجة المتضررة لها الحق في طلب فسخ عقد الزواج بحكم قضائي إذا تأكد الضرر الملحق بها من طرف الزوج.

و كمثال هناك البقرة 275 “و أحل الله البيع و حرم الربا” طبقا لهذا الحكم الشرعي الربا حرام و البيع حلال، و لكن ليس كل ما يباع حلالا. هناك أحكام شرعية أخرى قيدت عملية البيع، و أولها البقرة 275 حيث حرمت البيع بالربا. و النساء 29 “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم” فكل بيع فيه أكل لأموال الناس بالباطل حرام و لا يجوز شرعا. و من حالات أكل أموال الناس بالباطل البيع بالغبن و التدليس و النصب و الإحتيال و الربح الفاحش الذي يتعدى قيمة الثلت من الرأسمال والبيع بعد المضاربة و التحايل عمدا لرفع الأسعار. و يحرم كذلك بيع المسروق و ما هو محرم كالخمر و لحم الخنزير و المخدرات بأنواعها و الدليل المائدة 3 “حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به و المنخنقة و الموقودة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع إلا ما ذكيتم و ما ذبح على النصب و أن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق” ولا يجوز بيع الخمر لأنه محرم شرعا طبقا للمائدة 90.

و يمنع كذلك بيع البشر لأنه من خلق و ملك الله تعالى و الدليل سورة الناس “قل أعوذ برب الناس ملك الناس” فالله تعالى هو الملك الحق في الدنيا و الآخرة. و من ادعى الملك أشرك بالله تعالى ومن دعا للمشرك أو ركن إليه وأيده فهو أيضا مشرك والدليل هود 113 ” و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ” والتوبة 113 ” ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ” والممتحنة 1 ” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق “.

هناك مثال في سورة الطلاق 3 “و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا”. في هذه الآية حكم شرعي مطلق يدل على أن كل من توكل على الله لكي يسدد خطاه و عمله في مجال معين و يعينه على تحقيق مبتغاه فإن الله سيستجيب له. و لكن هناك أحكام في آيات لاحقة في النزول لسورة الطلاق 3 قيدت الحكم المطلق و منها: الحج 11 “و من الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين”. فطبقا لهذا الحكم الشرعي فإن الله تعالى لا يستجيب لكل من توكل عليه. فالذي يعبد الله بشرط أن يستجيب له و يقضي حاجاته منافق و انتهازي و لا يعبد الله عن اقتناع وحب و شكر له على نعمه و فضله و إحسانه و قياما بالواجب الذي فرضه عليه في عدة أحكام منها الذاريات 56 “و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدوني”. فكل إنسان ملزم بعبادة الله تعالى سواء كان غنيا أو فقيرا و سواء استجاب الله تعالى له في دعائه أم لم يستجب له. و من القيود على سورة الطلاق 3 هناك سورة التغابن 13 “و على الله فليتوكل المؤمنون”. لهذا لا يستجيب الله عز و جل إلا للمؤمنين الصالحين المتقين بشرط أن يكون دعاؤهم مشروعا و مقبولا عند الله تبارك و تعالى،. طبعا سورتا الحج و التغابن نزلتا بعد سورة الطلاق و من الأدلة على أن الله تعالى يستجيب فقط للمؤمنين الصالحين المتقين الطلاق 2-3 “و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب” و الطلاق 4 “و من يتق الله يجعل له من أمره يسرا” و إبراهيم 27 “يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة ” و الليل 5-10 ” فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى و أما من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسنيسره للعسرى”. و الشورى 30 ” و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم”. فإذا خالف الإنسان القرآن و نسي الله تعالى ينساه و يتخلى عن حمايته، فإذا أصابته مصيبة فإن الله قد كتبها عليه حيث تخلى سبحانه و تعالى عن حمايته لأنه خالف شرعه و عصاه. و الدليل على قضاء الله تعالى المطلق العادل يونس 107 ” وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله ” و آل عمران 160 ” إن ينصركم الله فلا غالب لكم و إن يخذلكم فمن ذا الذي  ينصركم من بعده و على الله فليتوكل المؤمنون” لهذا قال تعالى في سورة محمد 7 “يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم” و الأعراف 156 “و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون” و العنكبوت 23 ” و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتي و أولئك لهم عذاب أليم” فاستجابة الله تعالى لدعاء المؤمنين الصالحين المتقين رحمة منه. لهذا لا يستجيب للكفار و كل المخالفين للقرآن. لأنه خصص استجابته و نصره للمؤمنين الصالحين الصادقين فقط لقوله تعالى في الروم 47 ” و كان حقا علينا نصر المؤمنين ” و الحج 40 ” و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ” الله هو القوي و الغني و المالك للكون و ما فيه فلا يحتاج لمن ينصره. فالمراد بنصر الله في الآية طاعة الله و اتباع القرآن.

 و هناك مثال النساء 65 ” فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما” هذا الحكم الشرعي أعطى للرسول عليه الصلاة و السلام سلطة مطلقة في الحكم بين الناس. وجعل من شروط الإيمان التسليم بما حكم به و قضى به. و لكن نزلت آيات أخرى بعد النساء 65 قيدت هذه السلطة و فرضت على الرسول الحكم بين الناس بالحق و العذل و بما في القرآن. و منها النساء 105 ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما” و ما أراه الله تعالى هو القرآن. و النساء 135 ” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا” و المائدة 8 ” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” فالرسول من المؤمنين حقا. و أمر الله تعالى بالحكم بالعدل موجه إليه هو أيضا مثل باقي المؤمنين. لهذا فالرسول عليه الصلاة و السلام ملزم بالحكم بين الناس بالعذل و بما نزل الله تعالى و هو القرآن. لهذا فإن سلطته في الحكم بين الناس مقيدة و ليست مطلقة. ولا يسلم بها المؤمنون إلا إذا كانت عادلة و مطابقة للقرآن و الدليل المائدة 48 ” فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق “.

و هناك حكم شرعي آخر مقيد لما جاء في المعارج 29 ,30 و المؤمنون 5و6. و نجده في النساء 25 “ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات. والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان” والنور32 “و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله و الله واسع عليم”و النور 33 “والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهن إن علمتم فيهم خيرا”.فالنساء 3 و النساء 25 و النور 32 و33 آيات مقيدة و ملغية للحكم المطلق في المعارج 29و33.و المؤمنون 5 و 6 و قد نزلت بعد سورتي المعارج و المؤمنون. كما أن النور 2و3 “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك و حرم ذلك على المؤمنين” دليل قاطع على تحريم كل علاقة جنسية بين رجل و امرأة لا تستند إلى عقد زواج مشروع. لهذا ألغيت رخصة إتيان ما ملكت اليمين شرعا إلا بعد إبرام عقد الزواج فاعتبر أيها المؤمن كل نساء العالم في حرمة أمك و أختك باستثناء زوجتك الشرعية و اعتبري أيتها المؤمنة كل رجال العالم في حرمة أبيك و أخيك باستثناء زوجك الشرعي بناء على عقد زواج مشروع.

وهناك مثال في سورة التوبة 29 “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله و رسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.هذه الآية فيها حكم شرعي يعفي أهل الكتاب الذين لا يؤمنون من  الحرب و المقاتلة إذا أعطوا الجزية , وهي تعويض مالي مقابل خدمات الدولة.ولكن الله تعالى ألغى الجزية و أمر بمقاتلة جميع الكفار من أهل الكتاب و طردهم من دار الإسلام إذا رفضوا الإسلام و أساؤوا إلى المسلمين.والدليل التوبة 73 “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين و أغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير”.فلا يجوز تفضيل متاع الدنيا على دين الله الحق الإسلام. وقد ألغيت رخصة أخذ الجزية من أهل الكتاب لهذا فالكفار يقاتلون في دار الإسلام حتى يسلموا أو ينفوا منها.و الدليل المائدة 33و 34 و المائدة 48و49 و الفتح 16 ” تقاتلونهم أو يسلمون” و الأنفال 39 ” و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله” و البقرة 191 ” و اقتلوهم حيث ثقفتموهم و أخرجوهم من حيث أخرجوكم و الفتنة أشد من القتل “. وهناك مثال في النساء 101 “و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا”هذه الآية تضمنت حكما شرعيا مطلقا يعطي للمسافر الحق في قصر الصلاة أي صلاة ركعتين فقط في الصلاة الرباعية.ولكن نصت الآية المذكورة أيضا على حكم مقيد للأول و هو أن رخصة القصر في الصلاة عند السفر مشروطة بتحقق الخوف من الكفار الذين قد يؤذون المؤمن في دمه و عرضه و ماله .يجوز القصر مشيا أو ركوبا إذا توفر الخوف لقوله تعالى في البقرة 239 “فإن خفتم فرجالا أو ركبانا”ومن الأدلة النساء 102 “فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم “. فإذا لم يشعر المسافر بخوف على ماله و دمه و عرضه من الكفار فليس له حق في قصر الصلاة بل يجب عليه أن يصلي أربع ركعات في الصلاة الرباعية و أن يتوضأ إذا كان الماء متوفرا ولكن لا يجوز له الصلاة بالجنابة و لو كان مسافرا . و الدليل المائدة6 التي ألغت هذه الرخصة في النساء 43. ولكن كثيرا من الناس يقصرون في الصلاة أثناء السفر ’رغم توفر الأمن و السكينة و رغم انتفاء عنصر الخوف من الكفار الذي هو شرط قصر صلاة المسافر.و السبب هو أنهم لم يفهموا تفسير النساء 101 كما أنهم اتبعوا سنة الرسول عليه الصلاة و السلام حيث كان يقصر من الصلاة أثناء السفر بين مكة و المدينة و في منى و عرفات و مزدلفة.و اتبعوا أيضا الحديث عن قصر الصلاة “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته” فهذه الصدقة مشروطة بتوفر عنصر خوف المؤمنين من شر و عدوان الكفار عليهم و على أموالهم و أعراضهم و إذا لم يتوفر عنصرالخوف من الكفار فهذه الصدقة باطلة و يجب إتمام الصلوات في السفر و عدم قصرها.كما أن السنة النبوية التي قصر فيها الرسول في الصلاة ليست ملزمة من بعده لأنه طبقها بسبب خوفه من كفار قريش الذين كانوا معادين للإسلام و المسلمين ويمنعونهم من دخول مكة لأداء فريضة الحج و العمرة.فالمسلمون بعد هذه الظروف التي عاشها الرسول ملزمون بالنص القرآني في سورة النساء 101 “وإذا ضربتم في الأرض فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا”بحيث ليس هناك شعور بالخوف من الكفار عن النفس و المال والعرض نظرا لتوفر عنصر الأمن في بلاد الإسلام .لهذا لا يجوز القصر في الصلاة للمسافر إذا لم يتحقق عنصر الخوف من الكفار.

 ولا يجوز شرعا نسخ النص القرآني في سورة النساء 101 بالسنة النبوية التي طبقها الرسول استنادا إلى هذه السورة حيث توفر له شرط الخوف من الكفار أثناء سفره مع المسلمين.و نحن ملزمون بالنص القرآني و شروطه و ليس بالسنة التي طبقته حسب شروطه.لهذ فإن قصر الصلاة في منى و عرفات و مزدلفة بالنسبة للحجاج المسافرين غير جائز شرعا نظرا لعدم توفر عنصر الخوف من الكفار الذي هو شرط لقصر الصلاة. وقد لاحظت عندما أديت فريضة الحج سنة 1426ه/2005 استثباب الأمن والسكينة والطمأنينة. فلم أعلم أن حاجا واحدا يعاني من الخوف من الكفار. وقد لاحظت أيضا بعض المسافرين في أماكن أخرى حتى الآن يقصرون من الصلاة وهم يؤدونها بجانب ضباط الشرطة بحيث لا وجود للخوف على المال والنفس والعرض. فإنهم ملزمون بعدم القصر منها.

وهناك حكم مطلق في النساء 59 “يا أيها الدين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”. في هذه الآية أمر الله عزوجل بطاعة أوامر ونواهي الله تعالى وأوامر ونواهي الرسول عليه الصلاة والسلام وبطاعة أوامر أولي الأمر من المؤمنين الصالحين الذين انتخبتهم الأمة الإسلامية أو الشعب المسلم لممارسة السلطة الإسلامية من بين المؤمنين الصالحين الصادقين المتقين ذوي الكفاءة والأهلية. ولكن طاعة الله تعالى مطلقة لا قيد لها. أما طاعة الرسول وأولي الأمر فإنها مقيدة بطاعتهم لله عزوجل أي الالتزام بحدود القرآن وأحكامه الشرعية. ومن الأحكام الشرعية المقيدة لطاعة الرسول وأولي الأمر ما يلي: المائدة 45 “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون” والمائدة 48 ” فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ” والشعراء 151-152 ” ولاتطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون”فكل ما يخالف حدود القرآن فساد وتجب مقاومته. و الممتحنة 12″ولا يعصينك في معروف” فالحكم الشرعي المفهوم من الآية والغير المنطوق هو وجوب عصيان ومقاومة المنكر وكل مخالفة لحدود القرآن وأحكامه. والدليل النساء 75″و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها”. الله أمر بمقاتلة الظالمين و مقاومة الظلم وكل مخالفة لشرع الله تعالى القرآن والقوانين الوضعية المطبقة له والمطابقة لحدوده ومن الأدلة على تقييد النساء 59 هناك سورة هود 63 “قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير” و هود 113 “و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون” و الأنعام121″و إن الشياطين ليوحون إلى  أوليائهم ليجادلوكم و إن أطعتموهم إنكم لمشركون “و من القيود على النساء 59 هناك سورة الأنفال 24″ استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم.”وما يحيي الناس هو القرآن و ما فيه من حكمة و ما يحققه للمؤمنين الصالحين الذين يتبعونه من حياة سعيدة في الدنيا و الآخرة. لهذا لا يلزم المؤمنون بطاعة أولي الأمر إلا إذا كانوا منتخبين من طرفهم و من ذوي الإيمان الصادق و الأهلية و الكفاءة و الاستقامة و بشرط أن يلتزموا في أقوالهم و تصرفاتهم بحدود القرآن و أحكامه و القوانين التي تتخذها الأمة الإسلامية مطبقة لحدود القرآن و مطابقة لها.لأن الله تعالى أنزل القرآن لتطبقه الأمة الإسلامية في دار الإسلام و الدليل الحديد 25 ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب إن الله قوي عزيز ” و البقرة 213 ” كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ” و الزمر55 ” و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون ” و أحيلكم على بحث نشرته بموقعي المذكور بالانترنيت حول موضوع “آيات القرآن التي أسندت الحكم و السلطة للأمة الإسلامية في دار الإسلام”.و إذا خالف الحكام و أولوا الأمر في الدولة الإسلامية حدود القرآن و القوانين الوضعية التي وضعتها الأمة الإسلامية فإن الأمة الإسلامية أو الشعب المسلم يعزلهم و يعاقبهم و ينتخب غيرهم ممن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة.

 وهناك حكم مطلق في سورة النساء 48و116 “إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء”فطبقا لهذا الحكم لا يغفر الله تعالى لمن أشرك به.

ولا يزال كثير من مفسري القرآن يدعون أن الله لا يغفر الشرك نهائيا.والواقع أن ذلك غير صحيح.  و أن الله تعالى جعل قيودا على هذا الحكم المطلق في القرآن ولم ينتبه إليها هؤلاء المفسرون أو أنهم تعمدوا د ذلك إرضاء لهواهم.

  ومن الأدلة على أن الله عز وجل يغفر الشرك و الكفر وهما وجهان لحقيقة واحدة ما يلي : سورة المائدة 73و74 “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه والله غفور رحيم” و التوبة 5″فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم”والتوبة 11 “فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين”و الفرقان 68 “والذين لا يدعون مع الله إلها آخر” و الفرقان 70 ” إلا من تاب و آمن و عمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ” وهناك حكم مطلق في سورة آل عمران 86″ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات” و الكهف 105 و 106 “أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا و اتخذوا آياتي و رسلي هزؤا”. طبقا لمقتضيات هذه الآيات و أحكامها الشرعية و الآيات الأخرى المؤكدة لها في القرآن كل من كفر بالله و بالقرآن مصيره جهنم و عذاب الله الدائم.ولكن هناك آيات أخرى فيها أحكام شرعية مقيدة لها حيث أعطت فرصة التوبة عن الكفر مرة واحدة في العمر.فإذا تاب الكافر و آمن و اهتدى و اتبع حدود القرآن قولا و عملا سرا و علانية حتى الموت يغفر له الله تعالى ويدخله الجنة مثل سائر المؤمنين الصالحين والأدلة منها الأنفال 38 “قل للذين كفروا إن ينتهوايغفر لهم ما قد سلف و إن يعودوا فقد مضت سنة الأولين”و التوبة 3 “فإن تبتم فهو خير لكم و إن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله” و آل عمران 89 “إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم”و مريم 60 “إلا من تاب و آمن و عمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون شيئا”. لهذا فإن الكافر يتوفر على فرصة التوبة من كفره .فإذا جسد إيمانه و توبته فعلا في التقوى و العمل الصالح و اتباع حدود القرآن قولا و عملا سرا و علانية  بدون رجعة حتى الموت فإنه يحظى بمغفرة الله تعالى و يفوز بالجنة والحياة الدائمة في سعادتها و الدليل طه 82 ” و أني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى “.

   و لكن لا تقبل التوبة إلا إذا كانت قبل الشعور بقرب أجل الموت بحيث تكون صادقة و عن حسن نية بدون تحايل و أن تتجسد فعلا في القول و العمل المطابقين لحدود القرآن. والدليل النساء 18″وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما “فلا تقبل التوبة عند الشعور بأجل الموت ولا تقبل بعد الموت. ومن الأدلة على ذلك محمد 34″إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم   ” وآل عمران 91 “إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملئ الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين” لكن الذين يتوبون قبل الشعور بالموت لا تحبط أعمالهم ويدخلون الجنة.

وهناك حكم مطلق في الزمر 53 “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم” والشورى 25 “وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون” والعنكبوت 21 “يعذب من يشاء ويرحم من يشاء” والفتح 14 “ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء” و النساء 110 “ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما”.

فطبقا للأحكام الشرعية المطلقة في هذه الآيات يغفر الله تعالى لكل من ارتكب السيئات وتاب إلى الله واستغفره ولكن هناك أحكام شرعية أخرى قيدت هذه الأحكام المطلقة ووضعت شروطا للتوبة والمغفرة بحيث لا يغفر الله تعالى الذنوب والسيئات ولا يقبل التوبة إلا إذا تحققت هذه الشروط. والأحكام المقيدة هي التالية: الأحزاب 70-71 “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم” والتغابن 9 “ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم”  والطلاق 5 “ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا”.

    هذه الأحكام الشرعية جعلت مغفرة الله وقبوله التوبة مقيدة بشروط لابد من توفرها في التائب. فالتوبة امتياز ورحمة من الله منحها للكافر والمسيئ المذنب مرة واحدة في العمر، وبشرط أن تتجسد في القول والعمل وذلك باتباع حدود القرآن حتى الموت بدون رجعة ويشرط الندم وعدم العودة إلى الكفر أو السيئات والذنوب. فالله تعالى يغفر ويقبل التوبة إذا تحققت شروطها ولكنه يعاقب أشد العقاب الذين لم يتوبوا ولم يلتزموا بشروط التوبة والدليل فصلت 43 “ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم” والأنعام 147 “فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين” والحجرات 11 “ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون” فمن نكت ونقض شروط التوبة وعاد إلى الكفر وارتكاب السيئات والذنوب لا يغفر له الله مرة ثانية لقوله تعالى في هود 3 “وإن تتولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير” و التوبة 74 ” فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة” وهود 52 “ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين” والنور 17 “يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين” فمن عاد إلى الكفر والسيئات والذنوب فليس مؤمنا ومصيره عذاب الله في الدنيا وفي جهنم بالآخرة فالعودة إلى الذنوب والسيئات بعد التوبة مرة واحدة في الحياة تنقض عهد الله تعالى وتمنع العائد من رحمة الله عز وجل. ومن الأدلة آل عمران 135 “والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون” والمائدة 95 “عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه. والله عزيز ذو انتقام”.

    ولا يقبل الله تعالى التوبة ولا يغفر الذنوب والسيئات إلا إذا تجسدت التوبة فعلا في الإيمان الصادق والعمل الصالح والتقوى أي الالتزام بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية بصدق ودون رجعة حتى الموت. ومن الأذلة على ذلك آيات كثيرة في القرآن منها ما يلي النساء 146 “إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما” والمائدة 39 “فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم” ومحمد 2 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم” والحديد 28 “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم” والعنكبوت 7 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون” وغافر 7 “ربنا وسعت كل شيئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم” وهذا قول الله تعالى على لسان الملائكة. فمن شروط قبول الله تعالى التوبة اتباع التائب لسبيل الله أي طاعته والإلتزام بحدود القرآن دون رجعة حتى الموت وهو صراط الله المستقيم. ومن الأدلة أيضا التحريم 8 “يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار”. فالتوبة يجب أن تكون صادقة وعن حسن نية واقتناع ودون نفاق بحيث يجب أن تتجسد في التقوى و الالتزام بحدود القرآن وطاعة الله عز وجل بدون رجعة حتى الموت ومن الأدلة المؤكدة الأنفال 29 “يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم” والأعراف 156 “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون”. والتوبة من رحمة الله تعالى فلا يقبلها إلا من المؤمنين المتقين.

بعد مقارنة هذه الآيات القرآنية تأكد أن مغفرة الله تعالى لكل من استغفره وتاب إليه ليست مطلقة بل إنها مقيدة بالشروط التي ذكرتها وهي الأحكام الشرعية المقيدة لما جاء في الزمر 53 والشورى 25 والعنكبوت 21 وغيرها.لهذا أوجه نداء صادقا لنفسي ولكل الناس في كل مكان وزمان بأن يراعوا شروط التوبة ليفوزوا برحمة الله عز وجل وبالسعادة في الدنيا و الآخرة.

و بهذا أختم هذه النقطة المتعلقة بالأحكام الشرعية المطلقة والأحكام الشرعية المقيدة لها في القرآن. لكني أعطيت أمثلة دون حصرها كلها. وهدفي أن يتعلم الناس كيف

يفهمون القرآن ويتدبرونه ويستنبطون أحكامه الشرعية وحدوده ومعرفة الحلال والحرام والفرائض من أجل الالتزام بحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. وفيما يلي أتعرض لنقطة ذات أهمية مما تله لما سبق وهي الأحكام الشرعية العامة والمخصصة لها في القرآن

5-أمثلة تطبيقية على الحكم الشرعي العام والحكم الشرعي المخصص له

القرآن شرع الله تعالى الذي أنزله على رسوله بالتدرج لتحقيق الأهداف والغايات والمقاصد التي أرادها عز وجل للناس في الدنيا والآخرة ومنها تحقيق مصالحهم المشروعة والسمو بتربيتهم تربية إسلامية سليمة. لهذا فمن قضاء الله وقدره المطلق العادل تشريع ما يشاء ونسخ وتعديل ما يشاء. الحكم العام و الحكم المخصص له يتعلقان فقط بعدد الأفراد الملزمين بهما.

مثلا التحريم 6 “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا”. فهذا أمر من الله تعالى للمؤمنين وحدهم ملزم لهم دون غيرهم من الناس. والنحل 64 “وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون”. هذا أمر وجهه الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام. فهو المرجع الأعلى بعد الله تعالى الذي يبين ما اختلف فيه المؤمنون من معاني آيات القرآن. والأحزاب 50 “يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن” أي المهر لكل زوجة طبقا لعقد نكاح دائم ومشروع. فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطيه هذا الحكم الشرعي الخاص به الزواج بما يشاء. بينما النساء 3 “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث وربع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”. هذا حكم عام بالنسبة لكافة المسلمين باستثناء الرسول. وقد حدد عدد الزوجات بحيث لا يتعدى أربع.

    وكذلك الأحزاب 51 “ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن”. هذا الحكم الشرعي رخص للرسول وحده دون غيره من المؤمنين بأن يباشر من يريد من زوجاته بينما باقي المسلمين فرض عليهم الله تعالى العدل بين الزوجات في المعاشرة الجنسية والإنفاق. والدليل النساء 3 “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” والنساء 129 : “فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما”.

     وقد فرض الله تعالى على زوجات الرسول دون غيرهن الحجاب الكامل أي النقاب. والدليل الأحزاب 53 “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن”.ولكن هذا حكم خاص بهن. أما باقي المسلمات غير زوجات الرسول فقد فرض عليهن القرآن عدم إخفاء الوجه. فالحجاب بالنسبة لهن جزئي بدون نقاب. والدليل النور 30 “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون” والنور 31 “وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها…”

    وزوجات الرسول صدر في حقهن حكم شرعي يأمرهن بالبقاء في بيوتهن لحكمة يعلمها الله عز وجل بينما باقي السلمات أمرهن الله تعالى بالعمل بجانب المسلمين في الإنتاج الحلال لتلبية الحاجيات المشروعة وإعداد القوة الضرورية للدفاع عن الاسلام ودار الإسلام وللمساهمة في إعمار الأرض وعبادة الله تعالى. والدليل الأحزاب 33 “وقرن في بيوتكن” بالنسبة لزوجات الرسول فقط.

    فالحكم الشرعي العام يلزم كافة الناس وإذا تم تخصيصه بحكم شرعي  آخر فإنه لا يزول ولا ينسخ بل يبقى ملزما في حدود الإستثناء والتخصيص الذي دخل عليه. ولا بد أن يكون الحكم المخصص نازلا بعد الحكم العام وليس حسب ترتيب المصحف. والحكم الشرعي العام قطعي الدلالة والإلزام بألفاظه ما لم يتبت حكم شرعي نازل بعده مخصص له حيث ينقص من عدد الأفراد المكلفين به. مثلا مريم 59 “فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا” هذا الحكم العام ينص على أن كل من ترك الصلاة عمدا ينال عذاب الله تعالى. ولكن هناك حكم شرعي آخر مخصص له بحيث استثنى من العذاب تارك الصلاة الذي يتوب توبة نصوحا ويصلي ويتقي بدون رجعة. والدليل مريم 60 “إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يذخلون الجنة ولا يظلمون شيئا”.

وكمثال آل عمران 97 “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. ومن كفر فإن الله غني عن العالمين”. فعبارة “ولله على الناس حج البيت” حكم عام يفرض الحج على كل إنسان. ولكن عبارة “من استطاع إليه سبيلا ” حكم مخصص لمن يجب عليه أداء فريضة الحج. وهو الذي يتوفر على الإستطاعة الصحية والنفسية والأمنية والمالية. وطبعا من توفرت له هذه الإستطاعة ولم يؤد فريضة الحج الواجبة عليه فإنه كافرولكن إذا منعته من الحج ظروف قاهرة خارجة عن إرادته كالقرعة مثلا فلا إثم عليه.

وكمثال عن الخاص والعام في القرآن النساء 145 “إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار”. فطبقا لهذا الحكم الشرعي العام كل منافق مصيره جهنم بعد البعث في الآخرة. ولكن النساء 146 تضم حكما شرعيا مخصصا للحكم السابق “إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما” لهذا فالتائب من النفاق قبل الموت بصدق وحسن نية يدخل الجنة إذا كان مستقيما حتى الموت.

    وكمثال البقرة 159 “إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون”. فطبقا لهذا الحكم الشرعي في هذه الآية فإن العلماء الذين يحرفون القرآن ويكذبون على الله تعالى أو يمتنعون عن تفسير القرآن والتربية الإسلامية الصحيحة فإنهم معرضون لعقاب الله عز وجل وعذابه في الدنيا والآخرة ولكن هناك حكم شرعي مخصص له في البقرة 160 “إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم”. فإذا تاب العالم المتوفر على أهلية الدعوة الإسلامية صحيا وفكريا وماليا ثم قام بالواجب المفروض عليه حيث بين للناس وفسر لهم أحكام القرآن وتابع الدعوة الإسلامية بحق وصدق في إطار إيمانه الصادق وعمله الصالح والتقوى فإن الله يتوب عليه ولا يعاقبه بل يفوز برحمة الله وجنته.

    وكمثال هناك الطلاق 4 “وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن” فطبفا لهذا الحكم الشرعي بمجرد وضع الحامل مولودها تنتهي عدتها من زوجها إذا مات أو طلقها ولكن هناك تخصيص لهذا الحكم الشرعي في البقرة 234 “والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا”. لهذا فعدة الحامل المتوفى عنها زوجها لا تنتهي بوضعها الحمل إذا وضعته قبل انقضاء مدة أربعة أشهر وعشرا. بل لا بد أن تمتد عدتها إلى أربعة أشهر وعشرا. وهذه حكمة الله تعالى فلا يقبل العقل والأخلاق بأن تتزوج الحامل المتوفى عنها زوجها بمجرد وضع حملها بعد يومين أو ثلاتة من تاريخ موت زوجها بينما أهل الهالك وجيرانه وأصدقاؤه يعدون تأبينه في غمرات الحزن عن موته ولا سيما إذا كان له أبناء يتهالكون من شدة البكاء عن والدهم المتوفى.

لهذا لا تفسروا آية منفصلة عن باقي آيات القرآن. بل لا بد من مقارنتها ببعضها لمعرفة الحكم العام و المخصص له والحكم المطلق من المقيد له والحكم المنسوخ من الناسخ له وهذا ما يفرض معرفة ترتيب سور وآيات القرآن حسب تاريخ النزول.

وكمثال عن تخصيص العام المائدة 5 “والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم”. هناك أحكام خصصت ما جاء في المائدة 5. فلا يجوز زواج المسلم بالكافرات والمشركات من أهل الكتاب. والأدلة منها ما يلي : البقرة 21 2 “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنن” والكتابيات يعبدن المسيح عليه السلام ويعتبرنه ربا لهم. وهذا شرك بالله تعالى، ولا يؤمنن بالقرآن والله تعالى جعل من شروطالإيمان الصادق الإيمان بالقرآن والعمل بأحكامه وحدوده لقوله تعالى في عدة آيات منها محمد 2-3 “والذين آمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم” كما أن الله تعالى فرض على الزوج المؤمن إرغام نفسه وزوجته وأبنائه على الإيمان والعمل الصالح والتقوى والدليل التحريم 6 “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا” وهذا دليل قاطع شرعا في القرآن يحرم زواج المسلم بغير المسلمة، وزواج المسلمة بغير المسلم. ولهذا فالتخصيص الذي أدخل على المائدة 5 هو أن المسلم لا يجوز له الزواج بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا إلا إذا كن مؤمنات بالقرآن وصالحات وعاملات بأحكامه وحدوده.

وكمثال أيضا التوبة 41 “انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله” و البقرة 216 “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”. فطبقا لحكمي الآيتين كل مسلم ملزم بالقتال والجهاد دفاعا عن الإسلام ودار الإسلام والمسلمين. ولكن هناك أحكام شرعية أخرى خصصت هذه الفريضة حيث جعلتها غير واجبة على عدد من المسلمين منها: التوبة 91 “ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله”. وأيضا التوبة 122 “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” لهذا فإن فريضة الجهاد لا تجب على من ليست له استطاعة صحية ولكن يجب عليه المساهمة في الجهاد بماله إن كان متوفرا له.

وهناك مثال آخر في البقرة 228 “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء”. طبقا لهذا الحكم كل مطلقة عدتها ثلاثة حيضات بحيث إذا لم يرجعها مطلقها قبل انقضاء العدة لا بد له من إبرام عقد زواج آخر معها وبشرط رضاها. ولها الحق في الزواج بغيره إذا انقضت مدة العدة. ولكن هناك تخصيص لهذا الحكم العام الذي يهم كل المطلقات. وهو ما جاء في الأحزاب 49 “إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها.” فغير المدخول بها إذا طلقت لا عدة لها بل تتزوج متى شاءت.

 وهناك مثال في النور 4 “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون” فبعد توقيع العقاب عليهم تقبل شهادتهم إذا تابوا لله توبة نصوحا وآمنوا وأصلحوا واتقوا. والدليل النور 5 “إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم”. وهناك تخصيص آخر لهذا الحكم الوارد في النور 4 وهو النور 6-10 “والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويذرؤوا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين”. لهذا فالحكم الشرعي الوارد في النور 4 ليس عاما بالنسبة لكل من رمى المحصنات بالزنى ولم يتوفر على دليل الإثبات. والتخصيص الذي وقع فيه أن الزوج لا يعاقب إذا رمى زوجته بالزنى ولم يثبت له دليل. وأختم هذه النقطة ببيان معايير التمييز بين التعديل التام بين الآيات وهو النسخ وبين التعديل الجزئي بين الآيات وهو تخصيص العام وتقييد المطلق. فالتخصيص والتعميم والإطلاق والتقييد بين الأحكام الشرعية ليس نسخا لأن النسخ يكون بين آية سابقة في النزول وآية لاحقة لها في النزول فاللاحقة تلغي السابقة لها بكاملها حيث لا تلزم أحدا رغم بقائها مقروءة ومكتوبة في مصحف القرآن والتخصيص والتقييد والتعميم والإطلاق ينتج عنه تعديل جزئي فقط وليس إلغاءا كاملا فالتخصيص يعدل الحكم العام من حيث عدد الأفراد الملزمين به والتقييد يعدل الحكم المطلق في مضمونه التشريعي ودرجة إلزامه مهما كان عدد الأفراد الذين يهمهم الحكم.

6- معرفة أسباب وترتيب النزول شرط لاستنباط الأحكام من آيات القرآن :

إن آيات القرآن نزلت من الله تعالى بواسطة الملك جبريل على الرسول محمد بن عبد الله عليهما السلام خلال مدة ثلاث وعشرين سنة وربع. وسبب نزول الآية هو الهدف والغاية التي نزلت من أجلها وترتيب النزول هومعرفة الأسبقية الزمنية لنزول الآيات ولكل من سبب نزول الآيات وترتيبها الزمني فائدة هامة بخصوص فهم القرآن وتفسيره واستنباط الأحكام الشرعية من آياته من أجل تطبيقه والعمل بحدوده قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. وسأتعرض في نقطة لأسباب نزول آيات القرآن وفي نقطة أخرى لترتيب هذا النزول زمنيا.

أولا : أسباب نزول آيات القرآن :

السبب الرئيسي لنزول آيات القرآن مثل الكتب السماوية السابقة هو تحقيق مصالح الناس وتحديد نظام استخلافهم وابتلائهم واختبارهم في الدنيا لأن القرآن حكمة الله تعالى وفي أتباعه فائدة وسعادة للانسان في الدنيا والآخرة. والأدلة كثيرة منها البقرة 38-39 والأغراف 35-36 والمائدة 48 والحديد 25 والبقرة 213. ولكن بعض آيات القرآن لها أسباب مباشرة لنزولها استجابة لواقع وتساؤلات واستفسارات وجهت للرسول. لهذا نجد كثيرا من الآيات تضم مباشرة عبارة “يسألونك … قل” مثلا البقرة 222 “ويسألونك عن المحيض قل هو أدى فاعتزلوا النساء في المحيض” و الفرقان 33 ” و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا “.

    وأسباب نزول الآيات قد تشير إليها ألفاظها وعباراتها. ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الذين عاصروه هم الذين يعلمون أسباب نزول بعض الآيات لأنهم أدركوها بسمعهم وأبصارهم خلال فترة نزول الوحي وهي ثلاث وعشرون سنة وربع. وفي عصرنا لا نعلم أسباب نزول بعض الآيات إلا عن طريق تواتر الروايات التي تركها بعض الصحابة. فما هي الآثار المترتبة عن معرفة أسباب نزول بعض الآيات القرآنية إنها تساعد على فهم وتدبر آيات القرآن واستنباط أحكامها الشرعية. ولكن الحكم الشرعي في الآية غالبا يكون ناسخا أو منسوخا مطلقا أو مقيدا وعاما أو مخصصا وصالحا لكل زمان ومكان وليس فقط لأسباب نزول الآية. فالعبرة بألفاظ الآية ومعانيها المجازية أو الحقيقية ومقاصد النص القرآني وليس فقط بأسباب النزول. مثلا نزلت آية في أبي لهب في سورة المسد “تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد” فنزول هذه الآية كفر أبا لهب. ولكن الحكم الشرعي مطبق على غير أبي لهب أيضا. فكل كافر بل وكل إنسان لا ينجيه ماله مهما كان كما وكيفا من عذاب الله تعالى إذا لم يكن مؤمنا صالحا متقيا حتى الموت. وهناك آيات نزلت لأسباب خاصة بها. وبعد أن زالت هذه الأسباب فقدت عنصر أسبابها رغم بقائها مقروءة ومكتوبة في مصحف القرآن. وكمثال النقاب أو الحجاب الكامل الذي يغطي الوجه كله. فرضه الله تعالى على نساء النبي وحدهن دون باقي المؤمنات، والدليل الأحزاب 53 “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب” وبموت نساء النبي انتهى حكم النقاب لأنه غير مفروض على غيرهن.

   ولكن هناك أحكام شرعية مستنتجة من آيات لها أسباب نزولها وصالحة لكل زمان ومكان وهي كثيرة. وهنا يتجلى الواجب الملقى على عاتق علماء الإسلام لاستنباط هذه الأحكام وملاءمتها مع ظروف العصر. وكمثال الأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…” فعند نزول هذه الآية كان الخيل أهم وسيلة من وسائل القوة العسكرية المستعملة في الحروب بالعالم كله. أما في عصرنا فقوة أعداء الإسلام متطورة جدا حيث تشتمل على الدبابات الفتاكة والمدمرة والطائرات الحربية والسفن والصواريخ والأسلحة النووية والكيماوية وغيرها. فلا يمكن مواجهتها بالخيل. فالحكم الشرعي الصالح لكل زمان ومكان والمستنبط من الأنفال 60 لا يتوقف على ظروف وأسباب نزولها ووقائعها بل الحكم الملزم للمسلمين في كل زمان ومكان هو أمر الله تعالى لهم بإعداد القوة الإقتصادية والمالية والعسكرية لمواجهة قوة الكفار كما وكيفا.

    لهذا فإن معرفة أسباب نزول الآية تساعد على فهمها واستنباط الحكم الشرعي منها لكن تفسير الآية قد لا يتوقف على معرفة أسباب نزولها كما أن الحكم الشرعي قد يكون عاما ومجردا ومطلقا وملزما في كل زمان ومكان كما دل على ذلك الحكم الوارد في الأنفال 60 وغيرها. وسأعطي أمثلة أخرى مماثلة.

        وكمثال الجاثية 18 “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”. فكل الناس في العالم ملزمون بهذه الآية رغم أنها أمر موجه للرسول وحده. وكل إنسان ملزم باتباع القرآن قولا وعملا سرا وعلانية. والدليل المفسر لهذه الآية ما جاء في الزمر 55 “واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من فبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون”.

وكمثال ال عمران 14 “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب”. فشهوات وملذات ومتاع الحياة الدنيا الذي يبتغي الإنسان ويشغله عن ذكر الله وعن عبادته واتباع حدود القرآن لم تعد هي المذكورة فقط في آل عمران 14. فقد كانت عند نزول الآية هي أسبابها. ولكن بعد التطور الإجتماعي والإقتصادي والإنتاجي والعلمي تغيرت وسائل متاع الدنيا والشهوات التي يحبها الإنسان ويفتتن بها. فالإنسان يحب شهوات السيارات والطائرات والسفن والقطارات والقصور والعمارات الفخمة والحسابات البنكية وتكديس الأموال الطائلة الورقية والنقدية. فالحكم الشرعي في آل عمران 14 أن كل ما يشغل الإنسان عن عبادة الله واتباع القرآن وطاعة الله حرام ويذخل من اتبعه إلى جهنم وعذاب الله عز وجل. لكن الله تعالى يحب من يستمتع بمتاع الدنيا وزينتها حسب استطاعته ولكن في إطار الإلتزام بحدود القرآن وطاعة الله تعالى وعبادته.

    وهناك مثال التوبة 34 “يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا۟ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحۡبَارِ وَالرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَالَ النَّاسِ بِالۡبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكۡنِزُونَ الذَّهَبَ وَالۡفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” الحكم الشرعي في هذه الآية يحرم كنز وإخفاء الذهب والفضة بل يأمر بإنفاقها حسب الحاجيات المشروعة وفي سبيل الله ولكي لا يصاب اقتصاد المسلمين بالركود وضعف السيولة ولكن تطور وسائل التبادل المعاصرة جعل من الناس من يحتكرون ويكنزون السلع والمواد والأموال ويحتكرونها أملا في ارتفاع أسعارها فيأكلون أموال الناس بالباطل ويضرون بمصالح الناس وبالاقتصاد العام الذي يصاب بالشلل والكساد بسبب المضايقات والنصب والإحتيال وارتفاع الأسعار وتزوير الميزانيات.

    فالحكم الشرعي المستنبط من التوبة 34-35 المذكورة هو تحريم القرآن للاحتكار والمضاربة وأكل أموال الناس بالباطل وتحريم الربح المتفاحش والغبن والغش والتهرب الضريبي والنصب والإحتيال.

و كمثال الأنفال 66 “فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين”. طبقا لهذه الآية أمر الله تعالى المقاتل المسلم بأن يواجه محاربين من الكفار. وإذا لم يفعل ذلك يتعرض لعذاب الله تعالى ولكن هذه الآية لها أسباب نزولها حيث كانت قوة المسلمين موازية لقوة الكفار من حيث عدد المقاتلين ومن حيث وسائل السلاح والحرب. ولكن بعد إعراض المسلمين عن القرآن وانشغالهم فقط بمتاع الدنيا تدهورت قوتهم وتقدم الكفار في كل المجالات. فلا يمكن لمحارب مسلم في عصرنا مواجهة ولو جندي واحد من الأعداء نظرا لتطور وسائل قوتهم وأسلحتهم. فلا يستطيع جندي مسلم مواجهة جندي من الكفار وهو مختبئ في دبابته التي تحطم وتحرق بمدفعيتها الأخضر واليابس و البشر والمنازل.

لهذا لا يمكن فرض تطبيق الأنفال 66 في ظل هذه الظروف والدليل البقرة195 “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” و النساء 102 “وخذوا حذركم”. لهذا فإن وضعية تطبيق الأنفال 66 تجاوزتها وضعية تفوق قوة الكفار في كل المجالات وتخلف المسلمين بسبب ابتعادهم عن صراط الله المستقيم وهو القرآن

وكمثال حكم الوضوء والتيمم. فكل واحد منهما شرع لأسبابه وظروفه. وليس للمصلي الإختيار بين الوضوء والتيمم ولكن يجب الوضوء إذا توفر الماء ولم يكن هناك مانع منه كالمرض ويجب التيمم في حالة فقدان الماء أو المرض المانع من الوضوء

وكمثال كان بعض الناس يستهزؤون بشهداء معركة بدر المسلمين حيث قالوا إنهم حرموا أنفسهم من نعيم الدنيا وزينتها ومتاعها فأنزل الله تعالى البقرة 154 “ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون” فالآية جواب لهؤلاء المستهزئين بالشهداء ولكن الآية لا تهم فقط هذا الجواب بل هي حكم شرعي صالح لكل زمان ومكان يدل على أن كل مسلم مات شهيدا في سبيل الله والدفاع عن الإسلام يمتعه الله تعالى في الجنة ويحيى فيها الحياة الدائمة الأبدية.

وكمثال البقرة 221 “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنن” وقد نزلت جوابا عن طلب قدمه أبو مرتد الغنوي للرسول عليه الصلاة والسلام لكي يسمح له بالزواج بمشركة فمنعه من ذلك ولكن الحكم الشرعي في البقرة 221 لا يهم فقط الغنوي بل ملزم لكافة المسلمين في كل زمان ومكان فلا يجوز للمسلم الزواج بغير المسلمة ولا يجوز للمسلمة الزواج بغير المسلم والدليل عدة آيات منها التحريم 6 ” يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا” فالزوج المسلم ملزم شرعا بأن تكون زوجته وأبناؤه القاصرون مسلمين. راجع أدلة سابقة حول هذه المسألة.

وكمثال أن بعض المسلمين كانوا متحمسين للحرب دفاعا عن الإسلام وأنهم مستعدون للتضحية بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله فابتلاهم الله تعالى بمعركة أحد مع الكفار ولكنهم تراجعوا مدبرين فانتصر أعداء الإسلام فأنزل الله تعالى آية الصف 2-3 “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” والحكم الشرعي المستنبط من هذه الآية لا يهم فقط هؤلاء الذين نزلت في حقهم بل هو حكم مطلق وعام بالنسبة لكل المنافقين فكل من يقول ما لا يفعل من المسلمين منافق وسوف يكون في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتب توبة نصوحا وصادقة ومجسدة في الإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح حتى الموت.

وكمثال كان مسيلمة الكذاب الحنفي يدعي النبوة ونزول الوحي عليه من الله تعالى ليشوه الإسلام فأنزل الله تعالى آية الأنعام 21 “ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ” ولكن الحكم الشرعي في هذه الآية لا يهم مسيلمة الكذاب الحنفي فقط بل يحرم على كل إنسان الكذب على الله تعالى.

وكمثال واقعة موت المنافق عبد الله بن أبي فقد صلى الرسول عليه الصلاة والسلام على جنازته رغم معاتبة عمر بن الخطاب له. فانزل الله تعالى تأييدا لموقف عمر بن الخطاب في سورة التوبة بالآية 84 “ولا تصل على أحد منهم مات أبدا”. ولكن حكم هذه الآية لا يتعلق بالأسباب فقط أي لا تهم فقط عبد الله بن أبي والكلام ليس موجها للرسول فقط بل لكافة المسلمين. فقد حرم عليهم صلاة الجنازة على الكفار والمنافقين أينما كانوا.

وكمثال جاء بعض كفار قريش ومنهم أبو سفيان وابن أبي جهل إلى الرسول ص وطلبوا منه الاعتراف بأصنامهم والدعاية لها مقابل إقامة علاقات سلم معه ومع المسلمين. فأنزل الله تعالى الأحزاب 1 “يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين”. فأسباب النزول تساعد على فهم الآية واستنباط حكمها الشرعي ولكن هذا الحكم قد يكون مطلقا وعاما. لهذا فالقرآن حرم طاعة الكفار والمنافقين وأمر الناس بالتقوى أي اتباع حدود القرآن.

وكمثال النساء 10 “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا” نزلت هذه الآية في حق رجل من غطفان اسمه بن زيد استولى على أموال ابن أخيه الصغير اليتيم. ولكن الحكم الشرعي في هذه الآية يحرم أكل أموال كل يتيم ظلما في كل مكان وزمان.

وكمثال أن جماعة من كفار قريش طلبوا من الرسول ص بأن يتبع دينهم ويعبد أصنامهم سنة كاملة. وبعد ذلك يتبعون هم أيضا الإسلام ويعبدون الله سنة كاملة للتأكد من أي الدينين أفضل. فنزلت الآية محذرة الرسول من الوقوع في شراك كفار قريش وحرمت عليه اتباع دين الكفار وهي الكافرون “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين” والحكم الشرعي في الآية لا يتعلق بأسبابها فقط بل هو حكم مطلق حيث أكد بأن دين الله الحق هو الإسلام ولا يعبد فيه إلا الله وحده. ويؤكد ذلك آل عمران 19 “إن الدين عند الله الإسلام” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”. و الأنفال 39 ” و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله “.

هذه الأمثلة التي بينتها من آيات القرآن أكدت أن أسباب نزول الآيات مهم ويبين الواقع والظروف التي نزلت فيها فيساعد على فهمها واستنباط الحكم الشرعي منها. ولكن الحكم الشرعي قد لا يكون خاصا بأسباب النزول والوقائع فقط بل يكون مطلقا وعاما في كل زمان ومكان. وهنا يتجلى دور مفسر القرآن بحيث عليه الالمام بقواعد فهم القرآن لاستنباط الأحكام الشرعية من الآيات.

ثانيا : ترتيب نزول سوروآيات القرآن من حيث الزمن

لا يجوز تفسير القرآن طبقا لترتيب سوره وآياته في المصحف. ولكن يجب تفسيره طبقا لترتيب سوره وآياته حسب التسلسل الزمني لهذا النزول وليس حسب مكان النزول في مكة أو المدينة أو غيرها.

كان القرآن يكتب عند نزول آياته من طرف كتاب الوحي تحت مراقبة الرسول ص. فكان هؤلاء الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي يؤرخون نزول القرآن ويسجلون هذا الترتيب حسب التطور الزمني. وقبل موت الرسول ص أمره الله تعالى بواسطة جبريل عليه السلام بترتيب سور القرآن كما هي في المصحف الذي بين أيدينا والذي تطبع منه ملايين النسخ في كل سنة وتوزع في كل أنحاء العالم من طرف الدعاة المحترمين والمحسنين.

    وهذا الترتيب الزمني له أهمية أساسية وبالغة ولابد منها لتفسير القرآن واستنباط أحكامه الشرعية.فلا يمكن فهم الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام و الخاص إلا بالاعتماد على ترتيب سور وآيات القرآن حسب التسلسل الزمني لنزولها. لأن الحكم الناسخ يلغي الحكم المنسوخ المخالف له والنازل قبله. والحكم المقيد يقيد الحكم المطلق النازل قبله. ومن لم يلتزم بقواعد فهم القرآن وتفسيره ومنها احترام الترتيب الزمني للنزول فإنه لا يفهم القرآن. وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال ويدعي بغير حق أن القرآن متناقض. وهذا غير صحيح لأن الله تعالى بقضائه وقدره نسخ وعدل ما شاء من الأحكام التي بقيت في المصحف مكتوبة ومقروءة رغم تعارضها كدليل على تدرج الشريعة الإسلامية الذي أراده الله تعالى.

    وبما أن هناك اختلاف بعض المفسرين للقرآن حول ترتيب سوره وآياته من حيث التسلسل الزمني لنزولها فإني ألتمس من كافة علماء الإسلام في كل مكان الصالحين والمتقين والصادقين البحث الدقيق حول مسألة الترتيب الزمني لنزول آيات القرآن. وما تصادق عليه الأغلبية المطلقة منهم في كل بلاد الإسلام يطبع في ملحق لمصحف القرآن. وبذلك يكون مرجعا لكل متدبر ومفسر لكتاب الله تعالى.

    وقد قارنت بين بعض المراجع التي تعرضت لترتيب آيات القرآن وسوره حسب تاريخ النزول فتوصلت إلى لائحة لهذا الترتيب أقدمها ضمن هذا البحث مساهمة مني في هذا المجال وهي كما يلي :

قائمة ترتيب نزول سور وآيات القرآن

السورة الترتيب السورة الترتيب السورة الترتيب السورة الترتيب
الأنفال 88 الزمر 59 القارعة 30 العلق 1
آل عمران 89 غافر 60 القيامة 31 القلم 2
الأحزاب 90 فصلت 61 الهمزة 32 المزمل 3
الممتحنة 91 الشورى 62 المرسلات 33 المدثر 4
النساء 92 الزخرف 63 ق 34 الفاتحة 5
الزلزلة 93 الدخان 64 البلد 35 المسد 6
الحديد 94 الجاثية 65 الطارق 36 التكوير 7
محمد 95 الأحقاف 66 القمر 37 الأعلى 8
الرعد 96 الداريات 67 ص 38 الليل 9
الرحمان 97 الغاشية 68 الأعراف 39 الفجر 10
الإنسان 98 الكهف 69 الجن 40 الضحى 11
الطلاق 99 النحل 70 يس 41 الشرح 12
البينة 100 نوح 71 الفرقان 42 العصر 13
الحشر 101 إبراهيم 72 فاطر 43 العاديات 14
النور 102 الأنبياء 73 مريم 44 الكوثر 15
الحج 103 المؤمنون 74 طه 45 التكاثر 16
المنافقون 104 السجدة 75 الواقعة 46 الماعون 17
المجادلة 105 الطور 76 الشعراء 47 الكافرون 18
الحجرات 106 الملك 77 النمل 48 الفيل 19
التحريم 107 الحاقة 78 القصص 49 الفلق 20
التغابن 108 المعارج 79 الإسراء 50 الناس 21
الصف 109 النبأ 80 يونس 51 الإخلاص 22
الجمعة 110 النازعات 81 هود 52 النجم 23
الفتح 111 الانفطار 82 يوسف 53 عبس 24
المائدة 112 الانشقاق 83 الحجر 54 القدر 25
التوبة 113 الروم 84 الأنعام 55 الشمس 26
النصر 114 العنكبوت 85 الصافات 56 البروج 27
المطففين 86 لقمان 57 التين 28
البقرة 87 سبأ 58 قريش 29

هذه تتمة لائحة ترتيب نزول سور وآيات القرآن

7 – إتقان اللغة العربية وقواعدها  

في هذه النقطة من هذا البحث سأبين أهمية إتقان اللغة العربية وقواعدها لفهم القرآن واستنباط أحكامه الشرعية وحدوده. ثم أتعرض لأمثلة مبينة لهذه الأهمية من خلال محور ألفاظ الآية ومعناها الحقيقي والمجازي ومحور دلالة صيغة المضارع والماضي والتساؤل في الأحكام الشرعية ومحور دلالة تكرار الأحكام الشرعية في القرآن وأختم ببيان دور العلماء المسلمين والواجب الشرعي المفروض عليهم لتمكين الناس من فهم القرآن. وكل هذه المحاور التي سأتعرض لها مرتبطة بواجب إتقان اللغة العربية وقواعدها لفهم القرآن. واستنباط الأحكام الشرعية من آياته.

أ – لابد لفهم القرآن من إتقان اللغة العربية وقواعدها

لا يمكن فهم القرآن فهما صحيحا ولا يمكن استنباط أحكامه الشرعية إلا بعد إتقان اللغة العربية وقواعدها لأن الله تعالى بقضائه وقدره المطلق العادل أنزل شريعة القرآن الناسخة لكل الشرائع السابقة لكافة الناس في العالم باللغة العربية. والأدلة على ذلك منها يوسف 2 “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” ومريم 97 “فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا” وطه 113 “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا” والأحقاف 12 “وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الدين ظلموا وبشرى للمحسنين” والشعراء 192-195 “وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين” وفصلت 3 “كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون” و الزمر 27-28 “ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون”.

لا يمكن فهم النظام الشامل الذي جاء به القرآن والمتعلق بكل جوانب الحياء البشرية ولا يمكن فهم مقاصده وفلسفته وحكمته بدون فهم وإتقان اللغة العربية وقواعدها. وهذا واجب على كل إنسان في العالم كيفما كانت جنسيته وقوميته ومكان إقامته لأن القرآن منزل لكافة الناس في العالم وملزم لهم ويجب عليهم إتباع حدوده والعمل بها حتى الموت. ومن الأدلة على ذلك الأعراف 158 “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” وسبأ 28 “و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا و لكن أكثر الناس لا يعلمون ” وأحيلكم على بحث نشرته بموقعي المذكور بالإنترنت حول موضوع “بطلان صلاحية التوراة والإنجيل بالقرآن وأحكام الكفر والإيمان”.

    لهذا فإن معرفة اللغة العربية وقواعدها واجبة على كل إنسان لفهم القرآن مثل قواعد النحو والصرف وعلم البيان والبلاغة ومعاني ألفاظ الآيات وأساليب القرآن وتمييز المحكم من المتشابه من الآيات حيث يجب ترك تأويل المتشابه لله تعالى وحده ويجب الإيمان به رغم جهل تأويله في الدنيا. وعند وجود كلمات وألفاظ في القرآن صعبة الفهم يجب الرجوع إلى كتب تفسير مفردات وكلمات القرآن ليتضح معنى الآية ويفهم حكمها الشرعي. وهي متداولة في المكتبات.

    وفي حالة وجود تعارض واختلاف بين حكمين شرعيين يجب الرجوع إلى لائحة ترتيب نزول سور وآيات القرآن لمعرفة الحكم الصحيح لأن الحكم اللاحق في النزول يلغي الحكم السابق له في النزول إذا كان متعارضا معه وذلك في حالة النسخ. أو التعديل من الإطلاق إلى التقييد أو من التعميم إلى التخصيص في حالة التعديل الجزئي. المهم أن هناك قاعدة أساسية وشرطا أساسيا لابد من اتباعهما عند تفسير القرآن وهما أن الآية لا تفسر بمفردها وحسب نصها فقط بل لا بد من عرضها على كل آيات القرآن الأخرى لمعرفة العلاقة التشريعية القائمة بينها.لهذا يجب على كل إنسان مسلم أن يتعلم اللغة العربية وقواعدها لفهم القرآن وتدبره ومعرفة أحكامه الشرعية لأنه لايمكن أداء شعائر الإسلام ومناسكه إلا باللغة العربية وطبقا لما جاء في القرآن.

وترجمة القرآن الحرفية إلى لغات غير عربية لا تؤدي إلى بيان المدلول الحقيقي للأحكام الشرعية ولا تراعي مقاصد القرآن وفلسفته وقد تؤدي إلى تحريفه عمدا أو عن غير قصد لأنها لا تبين الحقيقة ولأن معاني القرآن منها المجازي ومنها الحقيقي ومنها الألفاظ المستعارة والأحكام المنطوقة والأحكام المفهومة المعلومة من الآية والغير المنطوقة لهذا يجب على المسلمين إتقان اللغة العربية لفهم القرآن. ويمكن الدعوة الإسلامية وتبليغ القرآن لكافة الناس بلغات أجنبية وذلك بتفسير معانيه وتوضيحها للناس.بلغاتهم في انتظار تعليمهم اللغة العربية ليطلعوا بأنفسهم على حقائق القرآن من أصلها العربي ويقتنعوا بها، لأن تفسير القرآن بالعربية وبأية لغة أخرى وترجمته بأية لغة ليس قرآنا، كما أن السنة النبوية تصرف خاص بالني وليست قرآنا. فالقرآن هو النسخة العربية التي يتضمنها المصحف الذي سجلت فيه آياته التي أنزلها الله تعالى للناس في العالم كافة.

وجهل اللغة العربية من أسباب جهل حقائق القرآن، لهذا فإن أعداء الإسلام منهم من يحارب القرآن والمسلمين ويكرهه عمدا بسبب جهله اللغة العربية وعدم فهمه حكمة الله تعالى، من هنا تظهر أهمية وواجب تدريس اللغة العربية وقواعدها في كل أنحاء العالم لتمكين الناس من الإطلاع مباشرة على حقائق القرآن وفهم أحكامه وحدوده ليتمكنوا من التصديق والاقتناع به. ولهذا أدعو أعداء الإسلام إلى التجرد والموضوعية وتعلم اللغة العربية وقواعدها للتأكد من صدق القرآن وفهمه فهما صحيحا ومباشرا ودون وساطة قد تكون مغرضة ومحرفة لشرع الله عز وجل، وادعوهم أيضا إلى مقارنة آيات الله الواردة في القرآن مع آياته المجسدة لتصرفه سبحانه وتعالى في الكون والنفس البشرية وللتأكد من صدق القرآن. وأحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالانترنيت حول موضوع “استعمل عقلك أيها الإنسان في كل مكان لتتأكد من صدق القرآن”. فالعقل الإنساني هو الأداة التي يفهم بها كل إنسان القرآن وبه يتأكد من صدق آيات الله تعالى، ولكن يجب تكوين العقل القرآني لدى المسلمين منذ الطفولة بجانب تلقينه مختلف العلوم للمساهمة في إعمار الأرض كما أمر الله تعالى، فالعقل القرآني هو ذلك العقل الذي يتقن اللغة العربية وقواعدها وقواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره وله إلمام ومعرفة بأحكام القرآن وحدوده الشرعية. وبذلك يتحكم العقل القرآني في هوى النفس الأمارة بالسوء ويلزم الإنسان بإتباع القرآن للفوز بسعادة الدنيا و الآخرة.

ب – ألفاظ الآية والمعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

ألفاظ الآية هي الكلمات الواردة فيها والتي تحدد معناها ومقصودها وحكمها الشرعي، مثلا البقرة 275 “وأحل الله البيع وحرم الربا” هناك أربعة ألفاظ في هذه الآية هي أحل والبيع وحرم والربا. وهناك لفظ الجلالة الله عز وجل، فهذه الألفاظ أو الكلمات الواردة في البقرة 275 تؤكد لنا معنى مباشرا وواضحا ومحددا تدل عليه هو أن الله تعالى أحل ورخص بيع ما هو مشروع ولكنه حرم الربا. هذه الألفاظ في الآية المذكورة تدل على معناها الحقيقي الواضح لأنها مستعملة للدلالة على الحقيقة التي وضعت لها وطبقا لمعناها الشرعي الدالة عليه، اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي الدال عليه، ولا يحتمل تأويل معنى آخر غيره، وهذا هو المعنى الحقيقي للآية ويوضح الحكم الشرعي مباشرة وبوضوح وسهولة.ولكن آيات القرآن ليست ألفاظها كلها حقيقية بل هناك الكثير منها فيها ألفاظ مخالفة للمعنى الحقيقي، فهي مجازية ومستعارة. بمعنى أنها رغم معناها الظاهر فإن المراد منها الإشارة إلى معنى آخر غير واضح يجب على مفسر  القرآن الكشف عنه، فاللفظ المجازي يستعمل للدلالة على حقيقة مخالفة لمعناه الظاهر وذلك لاقناع الناس وتفسير الأحكام ودفع العقل البشري إلى التفكير والمقارنة والاستنتاج والاستنباط، وكمثال البقرة 16 “أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين” والبقرة 86 “أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون” إن لفظ “اشتروا” في الآيتين مجازي ومستعار، ولا يمكن تفسيره حسب معناه الظاهر  فليس هناك بيع ولا شراء ولا تجارة، ولكن المعنى الحقيقي أن المنافقين والكفار فضلوا الكفر على الإيمان ومتاع الدنيا على متاع الآخرة. ومن الأمثلة الأخرى المؤكدة لما سبق البقرة 175 ” أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار” وآل عمران 177 “إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم”. ولفظ “فما ربحت تجارتهم” في البقرة 16 لا يدل على خسارة في البيع والشراء بل المعنى الحقيقي أن الكفار والمنافقين خسروا الدنيا والآخرة وخسروا الحياة السعيدة الدائمة في الجنة لأن مصيرهم جهنم وعذاب الله تعالى. وهناك مثال آخر يؤكد هذه الحقيقة في فاطر 29 -30 “إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور. ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، إنه غفور شكور” والفتح 10 “يد الله فوق أيديهم” فحسب ظاهر ألفاظ الآية يد الله موضوعة فوق أيدي المؤمنين. ولكن هذا غير محقق في الواقع المشهود لأن الله تعالى مستوي على العرش فوق السماء السابعة، ولا يمكن تشبيهه بأي شيء، والدليل الشورى 11 ” فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يدرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”. والله تعالى لا يراه أحد في الدنيا ولا نعلم هل له يد أم لا. ولم يشاهد أحد أبدا يد الله موضوعة فوق أيدي الناس، فالمعنى الحقيقي لكلام الله تعالى في الفتح 10 “يد الله فوق أيديهم” هو أن الله تعالى أقوى من البشر وقادر على التصرف في كل ما في الكون كيف يشاء والدليل الأنعام 61 “وهو القاهر فوق عباده” والأنعام 103 “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” و الأحزاب 17 ” قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ” و آل عمران 160 ” إن ينصركم الله فلا غالب لكم ” والملك 1 “تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير”.

 وسوف أعطي أمثلة تطبيقية من القرآن عن المعنى الحقيقي والمعن المجازي في الآيات لأبين كيفية استنباط الأحكام الشرعية ولتوضيح قواعد فهم القرآن وعلوم تفسيره.

وكمثال البقرة 6-7 “إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تندرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم”. هؤلاء الكفار لم يصبهم الله بأذى في قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ولكن حرمهم من القدرة على فهم آيات الله لسوء نيتهم. وهذا المعنى المجازي مستعمل أيضا في الإسراء 46 “وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه” فالأكنة هي الغطاء الذي منع قلب الكافر سيء النية من التصديق بالقرآن وفهمه، والنحل 107 – 108 “ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم” أي منع قلوبهم من التصديق ومنع سمعهم وأبصارهم من التأكد من آيات الله تعالى. وكمثال الروم 53 “وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون” فلفظ العمي الوارد في الآية لا يعني الذين أصابهم العمى عضويا وفقدوا بصرهم كليا، بل المقصود الحقيقي من هذه الإستعارة الذين أبصروا حقا آيات الله تعالى في الكون وفي النفس البشرية الدالة على تصرفه ووجوده وقضائه وقدره المطلق العادل ولكنهم رغم ذلك تعاموا وتغاضوا عنها ولم يصدقوا بها جهلا أو عمدا. كما أن الكفار لا يعيرون اهتمامهم لسماع آيات القرآن ولا يصدقون بها.

 وكمثال ص 45 “واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار” ليس المقصود من ألفاظ النص أن أنبياء الله تعالى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام تأكيد حقيقة أن لهم أيدي وأبصار، ولكن المراد من الأبصار في الآية معنى حقيقي وهو أنهم استعملوا أبصارهم حقا وأعينهم لملاحظة آيات الله تعالى في الكون وفي أنفسهم وتأكدوا من الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وصدق شرائعه المنزلة عليهم، لذلك فقد أدركوا الحق وصدقوا به وميزوه عن الباطل والكذب والافتراء. لهذا نقول أنهم أدركوا الحق وأبصروه وصدقوا به، والذي لم يدرك الحق وتجاهله وأعرض عنه واستكبر عن آيات الله تعالى وكذب بها واتبع الباطل فإنه أعمى رغم وجود عينيه وبصره، والمراد في لفظ أولي الأيدي في ص 45 المذكورة أعلاه أن هؤلاء الأنبياء طبقوا فعلا شرائع الله ودافعوا عنها بقوة ودعوا إلى الله تعالى ونصروا الدين الإسلامي بشجاعة وبدون خوف لأن كل إنسان له يدان.

 وكمثال الكهف 100 -101 “وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا” أدخل الله تعالى الكفار جهنم لأنهم رغم توفرهم على حاستي البصر والسمع أعرضوا عن القرآن وكفروا بالله تعالى. والدليل الجاثية 7-8 ” ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم” والفرقان 73 “والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا” والرعد 19 “أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب” ليس المقصود من الآية أن الأعمى لا يدرك الحق ولا يلاحظ آيات الله تعالى بل المعنى الحقيقي هو أن الذي ينكر آيات الله عز وجل ولا يصدق بها رغم مشاهدته وسماعه لها بسبب كفره وعدواته لدين الله الإسلام يعتبر بمثابة أعمى.

بل هناك من المؤمنين الصالحين المتقين من هو أعمى أو أصم عضويا بحيث لا يرى بعينيه أو لا يسمع بأذنيه ولكنه يدرك الحق بعقله وصدق قلبه. وتؤيد هذه الآية كذلك الإسراء 72 “ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا” ليس المقصود من هذه الآية أن الذي يفقد بصره عضويا في الدنيا يبعثه الله تعالى في الآخرة أعمى، بل المقصود الحقيقي أن من اعرض عن القرآن في الدنيا ولم يصدق بالآيات الدالة على وجود الله تعالى وعلى صدق القرآن أي أنه تعامى وأهمل الحق وصدق بالباطل فإنه في الآخرة يكون في ضلالة أي لا يهديه الله تعالى إلى صراط الجنة بل صراط الجحيم.لهذا فالمؤمن المسلم المتقي الأعمى حقا وفاقد البصر يبعثه الله تعالى في الآخرة بعينيه وبصر جيد.

 وكمثال فصلت 17 “وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون” فقوم ثمود أنزل عليهم الله تعالى هداه وهو كتابه بواسطة رسوله ولكنهم أعرضوا عنه ولم يصدقوا بآيات الله تعالى الدالة على تصرفه بل أهملوها ولم يهتموا بها، وبذلك فضلوا الكفر على الإيمان فعاقبهم الله تعالى أشد العقاب.

 وكمثال الصف 8 “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون”. فنور الله تعالى هو القرآن، والدليل التغابن 8 “فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا” والأعراف 157 ” فالذين   آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون”. والكفار يريدون إطفاء نور الله معناه يريدون منع الناس من إتباع القرآن بالكذب والدعاية والافتراء فليس هناك نور مشتعل يريد الكفار إطفاءه.

وهناك آية مؤيدة لهذا التفسير هي الأعراف 203 “قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون” فالمراد من عبارة  “هذا بصائر من ربكم” هو القرآن، فالبصائر هي أدوات النظر والبصر. والقرآن بمثابة أداة النظر والبصر يبصر بها المؤمنون المتبعون له والملتزمون بأحكامه الشرعية وحدوده الصراط والطريق المؤدي بهم إلى الله تعالى وجنته.

ومن لم يتبع القرآن ليس له نور ولا أداة النظر بل يكون في ضلالة ولا يهديه الله تعالى إلى صراط الجنة بل إلى صراط الجحيم والعذاب. ونفس التفسير المذكور تؤيده الأنعام 104 “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها”. فالبصائر هي أدوات النظر التي تمكن الإنسان من معرفة الطريق والنجاة من الأخطار والضلالة، والبصائر التي جاءت من الله عز وجل هي القرآن، فمن اتبعه يتمكن من البصر وإتباع الطريق السليم والفوز برحمة الله عز وجل والنجاة من عذابه.

 وكمثال التوبة 6 “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه” والمراد من عبارة “يسمع كلام الله” حتى يصدق بالقرآن ويؤمن ويسلم، وإذا لم يسمع كلام الله تعالى ولم يؤمن فلا تبلغه مأمنه، فلا حق له في الإقامة بدار الإسلام، والسجدة 12″ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم، ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون”. فالمجرمون في الآخرة بعد البعث شاهدوا آيات القرآن مجسدة أمامهم وسمعوا ما ذكره القرآن لهم في الدنيا فتأكدوا من الحق وندموا عن كفرهم وجرمهم ولكن لا تنفع الندامة في الآخرة و الأحقاف 26 ” فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله”.

وكمثال الفرقان 44 “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا” فالكفار يسمعون ويبصرون فعلا ولهم عقول يعقلون بها، ولكنهم رفضوا التصديق بالقرآن الذي سمعوه وهو يتلى عليهم، وابصروا آيات الله تعالى في الكون وفي أنفسهم وهي دليل على وجوده وعلى صدق القرآن ولكنهم ركنوا إلى هواهم وعواطفهم ونزواتهم فأثرت قلوبهم على عقولهم بالضغط الدموي وتوثر الأعصاب وبذلك سلبت العقل قدرته على إدراك الحق ومنعته من التحكم في هوى النفس وفي القول والعمل، وتأثرت بالباطل وتجاهلت الحق وهو شرع الله تعالى الذي اعرضوا عنه، فهؤلاء الكفار أضل من الحيوانات التي قد تطيع سائقها فتسير في الطريق الصحيح بينما الكفار يتيهون في الضلالة ولا يشعرون أن حياتهم الدنيا مؤقتة ومجرد ابتلاء وامتحان مادته القرآن، من عمل به فاز ومن أعرض عنه وخالفه خسر الدنيا والآخرة.

وكمثال عن المجازي و الحقيقي في معاني الآيات الشعراء 88 -89 “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” والقلب السليم هو قلب المؤمن الصادق الذي صدق بالقرآن وبوجود الله تعالى وعمل صالحا في الدنيا بأحكام القرآن حتى الموت وكان من المتقين، والقلب المريض هو قلب الكافر الذي فيه شك ويكذب بالقرآن ويسيطر على العقل سلبيا فيمنعه من إتباع الحق، لهذا طلب نبي الله إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى لأن قلبه لم يكن مطمئنا وسليما، والدليل البقرة 260 “وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي” وتؤيد هذا التفسير الكهف 28 “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ” فاتباع الهوى والعواطف والنزوات وما تحس به الجوارح من تأثير القلب على العقل وارتفاع الضغط الدموي بسبب ضربات القلب وتأثيره على خلايا الدماغ والأعصاب يشل نشاط العقل ويؤثر عليه سلبيا، والدليل على دور القلب بينه الله تعالى في آيات كثيرة منها محمد 24 “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” فالقلوب المريضة بالشك والكفر واتباع الهوى والشهوات كأنها مغلقة بقفل لأنها تمنع العقل من فهم القرآن ومن التصديق بآيات الله تعالى في الكون والإنسان.

وكمثال عن الأسلوب المجازي في القرآن سورة ق 37 “إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد” فليس كل من له قلب وحاستا البصر والسمع يؤمن بالقرآن ويصدق به بل المقصود من هذه العبارة المجازية الذي له قلب سليم ومطمئن وليس فيه شك او ريب وكفر.

وسوف أتعرض لآيات فيها معنى مجازي استعمل للدلالة على القلب ولكني أقتصر على أمثلة منها فقط ومنها النمل 74 “وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون” والتغابن 4 “يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور” فالمراد من كلمة الصدر في هذه الآيات هو القلب. والدليل “الحج 46 “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” وآل عمران 154 “وليبتلي الله ما في صدروكم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور” ويونس 57 “يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين” فالذي يشفيه القرآن من مرض الكفر والشك هو القلب وليس الصدر. قال تعالى في البقرة 283 ” ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ” ولم يقل الله عز وجل فإنه آثم صدره. وتؤيد هذا التفسير المائدة 7 “إن الله عليم بذات الصدور ” والعنكبوت 10 -11 “أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين، وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين”. الله تعالى يعلم ما يفكر فيه كل إنسان في آن واحد وباستمرار في عقله ويعلم ما يعتقده كل إنسان في آن واحد وباستمرار في قلبه. والدليل البقرة 284 ” و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله” والنمل 74 “وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون” أي ما يخفون في قلوبهم وعقولهم وما يعلنون قولا وعملا.

وسأعطي أمثلة أخرى من القرآن دالة على المعنى المجازي في حالات أخرى منها : البقرة 187 “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن” لا يمكن أن يلبس الزوج زوجته ولا يكمن للزوجة ان تلبس زوجها لأنهما بشر وليسا ثيابا تلبس، ولكن المعنى الحقيقي أن الزوجة لباس لزوجها لأنها تحميه في صحته وعرضه وماله وأسراره وأبنائه وتلبي رغباته المشروعة. والزوج كذلك لباس لزوجته حيث يجب عليه حمايتها في صحتها وعرضها ومالها وأسرارها وأبنائها ويلبي رغباتها المشروعة. والتوبة 67 “ويقبضون أيدهم نسوا الله فنسيهم” ليس حراما أن يقبض الإنسان يده أو يطلقها، ولكن المعنى مجازي فقط، والمعنى الحقيقي أن الذي يقبض يده هو البخيل الذي لا يتصدق على المؤمنين المحتاجين رغم توفره على الفائض عن حاجياته الضرورية والدليل الإسراء 29 “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا” فلا يتعلق الأمر بحركة اليد ولكن بالإنفاق والتصدق، فلا يكون الإنسان شحيحا بخيلا ولا يكون مسرفا مبذرا، و البقرة 195″وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” والتغابن 16 “ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”. وفي سورة مريم 4 معنى مجازي أيضا “قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ” هذا قول الله تعالى على لسان زكرياء عليه السلام، فالأسلوب مجازي فقط لأن رأسه لم تشتعل فيه النار ولكن المعنى الحقيقي أن رأسه امتلأ بالشيب بكامله فأصبح شعره كله أبيض. وسورة إبراهيم 18 “مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء وذلك هو الضلال البعيد” الله تعالى شبه أعمال الكفار برماد عصفت به الريح فلم يعد له وجود. فلا تنفعهم أعمالهم في الآخرة ولو كانت صالحة لأنهم كفار ماتوا على الكفر، والدليل على ذلك: الكهف 105 “أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزؤا” وتؤيد هذه الآيات آيات أخرى مثل هود 16 والأعراف 147 وآل عمران 22 ولكن الذين يتوبون توبة صادقة من الكفار قبل الموت وجسدوا توبتهم فعلا في الإيمان الصادق والعمل الصالح والتقوى حتى الموت يغفر لهم الله تعالى ويدخلهم الجنة.

وهناك سورة آل عمران 103 “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” ليس لله حبل يمسكه الناس، الله تعالى مستوى على العرش فوق السماء السابعة كما أكد ذلك القرآن، فالمعنى الحقيقي للآية أن حبل الله هو القرآن ودين الله تعالى الحق الإسلام، شبه الله تعالى القرآن بالحبل لأنه ينقذ من تمسك به واتبعه من عذاب الدنيا والآخرة، فالغارق في الوادي إذا أمددته بحبل وتمسك به وجذبته إلى خارج الماء ينجو من الغرق والموت، لذلك فمن يتبع حدود القرآن ويلتزم بأحكامه الشرعية قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت فقد اعتصم بالله وتمسك بحبله المتين ونجا من العذاب وفاز برحمة الله والحياة الدائمة في سعادة جنته. والدليل آل عمران 101 “ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم” والاعتصام بالله هو اتباع القرآن.والتعاون على البر والتقوى والتكافل والأخوة في الدين وحرم الله انقسام المسلمين إلى فرق ومدارس وأحزاب وشيع ومذاهب لأن ربهم واحد هو الله تعالى وشريعتهم واحدة هي القرآن ورسولهم واحد هو محمد بن عبد الله عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه، هناك حزب واحد مشروع هو حزب الله تعالى ويجمع كافة المسلمين تحت ولايته، والدليل المجادلة 22 “ألا إن حزب الله هم المفلحون” و الروم 31-32 “ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون” لهذا حرم الله تفرقة المسلمين وأمر بوحدتهم حول نصوص القرآن وتفسيرها الذي تصادق عليه الأغلبية المطلقة من علماء الإسلام الصالحين المتقين في دار الإسلام كلها.ولا يجوز لشخص واحد إصدار فتوى أو أي تفسير للقرآن وحده ومستبدا برأيه بل لا تكون أية فتوى أو تفسير للقرآن ملزما للمسلمين إلا إذا وافق عليه كل علماء الإسلام أو على الأقل أغلبيتهم المطلقة لهذا ما يسمى فتوى شيخ الأزهر مثلاأو مفتي الجمهورية أو الدولة لا تلزم المسلمين نهائيا.

فتوحدوا أيها المسلمون السنة والشيعة و غيرهم، فالنص القرآني يجسد لكم إرادة الله تعالى، وهي لا تحتمل وجهين في التأويل لأن إرادة الله تعالى واحدة. واعلموا أن تفرقة المسلمين استفاد منها أعداء الإسلام وهي من أهم عوامل تخلف الأمة الإسلامية وسيطرة الحكام المستبدين الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويمتنعون عن تطبيق أحكام وحدود القرآن.

وهناك مثال آخر عن المعنى المجازي في سورة النساء 10 “إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما إنما ياكولون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا”. ولا يعني الحكم الشرعي في هذه الآية أكل ما يملكه اليتيم مما هو معد للأكل كالطعام والثمار والفواكه والدجاج والحيوانات وغيرها بل المقصود الاستيلاء على ما يملكه اليتيم أو تضييعه وإتلافه مثلا الأوراق المالية والنقود والذهب والفضة أو خزنها واحتكارها في مكان معين، والمعتدي على مال اليتيم لا يأكل النار في بطنه ولكن المقصود أنه ينال عذاب الله تعالى في الدنيا كالمرض والفقر  وعذاب جهنم في الآخرة.

وهناك العنكبوت 41 “مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون” هذا التشبيه يدل أن من اعتمد على الأصنام والأوثان وغيرهم من الأشياء والبشر واتخذهم أولياء من دون الله تعالى لا يفيدونه في شيء ولا يلبون طلباته ، بل الله تعالى هو الذي يجب أن يتخذه المؤمنون وليا لهم لأنه القوي فوق كل ما في الكون الذي خلقه ويملكه، وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وكمثال عن المعنى المجازي والمعنى الحقيقي سورة البقرة 245 ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ” والتغابن 17 “إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم”  الله تعالى هو الغني والقاهر فوق العباد وصاحب القضاء والقدر المطلق العادل، وهو تبارك وتعالى ليس في حاجة إلى من يقرضه، والدليل فاطر 15 “يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد” و النحل  18 ” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” والحجر 21 “وإن من شيء إلا عندنا خزائنه” و سبأ 24 ” قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله”. لهذا لا يحتاج الله تعالى لمن يقرضه أبدا، ولكن المقصود من عبارة “يقرض الله قرضا حسنا” في البقرة 245 هو أن الله تعالى قرر مكافأة المؤمنين الصالحين الذين يعملون الحسنات بأجر منه هو الحياة الدائمة في سعادة الجنة ورؤية ذاته العظيمة والكلام معه مباشرة بعد البعث في الآخرة، بل ينالون رحمة الله تعالى في الدنيا أيضا. و من الآيات المؤكدة لهذا الجزاء الذي قرره الله تعالى وضمنه للمؤمنين الصالحين ما يلي: البقرة 262 “الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” والمزمل 20 “وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا” والبقرة 274 “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” والنساء 40 “إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما” والبقرة 110 “وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله”. والطلاق 5″ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا” والنساء 146 “وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما” الله تعالى يجازي المؤمنين الصالحين عن أعمالهم الصالحة حيث يسجل لهم حسنات في كتب أعمالهم تنقعهم في الميزان عند الحساب في الآخرة. والدليل هود 115″واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين” ويوسف 90 “إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين” و الأعراف 170 “إنا لا نضيع اجر المصلحين” والتوبة 120 “إن الله لا يضيع أجر المحسنين” فإذا فعلت الحسنات أيها المسلم فإن الله رآك وعلم بنية فعلك قبل الفعل وسجلها لك مباشرة وحينا في كتاب أعمالك، وهي مدخرة لك والأجر المقابل لها يمكنك الله تعالى منه في الآخرة. فسارعوا أيها المسلمون إلى ادخار الحسنات عند الله تعالى وابتعدوا عن السيئات سواء كبائر أو صغائر لأن جزاءها عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة. والدليل النساء 173 ” فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا”.

لقد تعرضت لتوضيح مسألة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي في القرآن وأعطيت بعض الأمثلة التي تبين كيفية البحث عن المعنى الحقيقي، لأن جل آيات القرآن تتضمن المعاني المجازية، وحصرها كلها يحتاج إلى بحث مستقل.

ج- صيغة الماضي والمضارع والتساؤل في بعض آيات القرآن

فالماضي يدل على حدوث فعل قد مضى وانتهى فعله قبل الوقت الحاضر والمضارع يدل على حدوث فعل في الحاضر الذي نعيش فيه أو وقت لاحق مستقبلا، وفي القرآن آيات كثيرة تضمنت أفعالا على صيغة الماضي ولكنها تدل على صيغة الحاضر والمستقبل أيضا، وفيه أفعال كثيرة أيضا على صيغة المضارع ولكنها تدل على الماضي والحاضر والمستقبل.

وفي القرآن كذلك آيات تضمنت تساؤلات واستفهامات موجهة للمخاطبين به وهم كل الناس في العالم. وأتعرض لتفصيل ذلك في محورين الأول: التساؤل والاستفهام في القرآن، و الثاني: صيغة الماضي والمضارع في القرآن.

المحور الأول: التساؤل والاستفهام في القرآن

الاستفهام هو إلقاء سؤال للغير للحصول على جواب يراد منه فهم ومعرفة ما لم يعلم، فإذا سأل طالب أستاذه عن قاعدة مساحة المستطيل فإنه يريد معرفة ما لم يعلمه وهي أن مساحة المستطيل تساوي حاصل ضرب الطول في العرض. والله تعالى طرح كثيرا من الأسئلة والاستفهامات في آيات القرآن على رسوله عليه صلاة الله وسلامه وعلى غيره من الناس، ولكن ليس المراد منها الجواب الذي ينتظر منه الله تعالى معرفة ما لا يعلم، بل الله عز وجل عالم الغيب والشهادة واسع المعرفة وعالم لما مضى وما هو حاضر ومستقبل، الله عز وجل أكثر الناس علما وهو مصدر العلم، ولا يتحقق للناس علم إلا بفضله وإذنه وهو خالق الظواهر الكونية والإنسانية وخالق أسبابها، والأدلة كثيرة منها: الأنعام 59 “وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو” والبقرة 255 “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء” وطه 114  “وقل رب زدني علما” و الإسراء 85 “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” والبقرة 32 ” سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم” وهذا قول الله على لسان ملائكته.

الله تعالى طرح أسئلة واستفهامات في آيات كثيرة من القرآن وهو يعلم الجواب مسبقا ولكنه أراد إشراك العقل البشري المخاطب في البحث عن الجواب لتأكيد الحقيقة وإثباتها وإقرارها وإقناع المخاطب من خلال بحثه بنفسه عن جواب التساؤل الوارد في الآيات.

وكمثال الأنعام 91 “وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس”. الله تعالى يعلم انه هو الذي أنزل الشرائع على رسله ومنها التوراة على رسوله موسى عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه، ولكن استفهامه وسؤاله في الأنعام 91 للإقناع وتقرير الحقيقة. لم يستطع أحد من البشر إثبات أن هناك من أنزل التوراة على موسى غير الله تعالى، وفي ذلك إقناع ودليل بأن الله هو الذي أنزل القرآن. وكمثال الأنبياء 66 “أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم” والأعراف 194 “إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم أذان يسمعون بها”، هذا الاستفهام يؤكد الحقيقة المطلقة وهي أن الله تعالى أقنع الكفار والمشركين أن أصنامهم وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله تعالى فعلا لا تنفعهم ولا تضرهم لأنها ليست حية ولأن الله تعالى هو القاهر فوق كل شيء والقوي فوق كل من هو غيره، وقوة الله المطلقة وقضاؤه وقدره المطلق العادل مجسد في تصرفه وآياته في الكون والإنسان. وكمثال المائدة 18 ” وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ” فالاستفهام له جواب مقنع وهو أن الله تعالى يعذب اليهود مثل سائر البشر بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله حقا لما عذبهم.

وكمثال الأحقاف 34 “ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا، قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون” الله تعالى يعلم أن ما في القرآن حق وانه مجسد فعلا في الآخرة حيث هناك جهنم والجنة ولكن المراد من السؤال إقناع المخاطب وإقامة الحجة عليه. وكمثال طه 17 “وما تلك بيمينك يا موسى” الله تعالى يعلم ويرى ما في الكون في آن واحد ليل نهار وباستمرار ويعلم أن في يد موسى عصا، ولكن طرح عليه السؤال لإثارة انتباهه وتذكيره وتهيئته للأمر الذي سيأمره به وهو إلقاء العصا التي تحولت بقدرة الله تعالى إلى ثعبان حي يتحرك أمام موسى عليه السلام.

وكمثال الرعد 16 “أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار”. طرح الله تعالى الاستفهام واتبعه بالجواب، وهذا أسلوب طرح المشكلة وإيجاد حلها ولإقناع المخاطب المسؤول بالجواب اللاحق.

وكمثال الواقعة 63 -65 “أفرايتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون” فالمراد من السؤال والاستفهام إقناع المخاطبين بقدرة الله تعالى على فعل ما يريد ومعاقبة من يخالف القرآن. الله تعالى يعلم أن الناس هم الذين يحرثون الأرض ويزرعون الزرع، ولكن أكد أنه قادر على تحطيم وإتلاف ما يحرث ويزرع الناس في أية لحظة حتى ولو نضج وأثمر.

وكمثال الزمر 64 “قل أفغير الله تأمرونني أعبد أيها الجاهلون” والتين 8 “أليس الله بأجكم الحاكمين” فالسؤال والاستفهام في الآيتين استنكار وعتاب عن تكذيب الحقيقة أن لا معبود إلا الله تعالى وحده، الحقيقة أن الله وحده احكم الحاكمين ولا شريك له أبدا في حكمه.

وكمثال في البقرة 33″ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون” هذا حوار الله عز وجل مع ملائكته، فالاستفهام والسؤال الوارد في الآية يراد منه التذكير بالحقيقة وتأكيدها وهي أن الله فعلا عالم غيب السماوات والأرض وما تسر وما تعلن كل نفس.

وتؤيد هذا التفسير البقرة 106 “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير” هذا الاستفهام والسؤال دليل وتأكيد الحقيقة السابقة، فالله تعالى نسخ بعض آيات القرآن بأخرى لأنه صاحب القضاء والقدر المطلق العادل وأنه فعال لما يريد وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، و أنه هو الذي قرر النسخ في القرآن والشرائع السابقة في إطار التربية التدريجية للمجتمع الإسلامي وتحقيق مصالح الناس حسب عوامل تطورها. وكمثال التوبة 13 “ألا تقاتلون قوما نكتوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين” في هذه الآية أمر من الله تعالى للمسلمين بأن يقاتلوا الكفار، ولكنه أقنعهم بمبررات القتال في صيغة تساؤل واستفهام وهي الخيانة والكفر والبدء في العدوان على المسلمين، بل جعل الله تعالى من شروط الإيمان عدم الخوف منهم والخوف من الله وحده، ونفس التفسير نجده في النساء 75 ” ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ” فهذا التساؤل دليل على أمر الله تعالى الموجه للمسلمين بأن يقاتلوا الكفار والمنافقين والحكام الظالمين دفاعا عن إخوانهم المسلمين المظلومين من طرف الحكام وغيرهم وذلك حسب استطاعتهم الصحية والعسكرية والأمنية والمالية.

وكمثال الأنبياء 30 ” أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون” فالكفار لم يشهدوا خلق الله تعالى للسماوات السبع والأراضي السبع ولكن أمامهم آية ودليل من آيات الله عز وجل وهو أن الماء من خلق الله وحده ولا يستطيع أحد إنزاله بعد الجفاف ولا منع إنزاله في حالة الفيضانات المدمرة والقاتلة، كما ان الماء هو أصل حياة كل الكائنات والمخلوقات الحية، وبدونه تموت حتما، ومنها  الإنسان. الله طرح السؤال في الأنبياء 30 لإقناع الكفار وغيرهم بهذه الحقيقة التي لا أحد يستطيع إنكارها.

  وكمثال مريم 83 -84 “ألم تر  أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا” فالرسول لا يمكنه رؤية الشياطين التي سلطها الله تعالى على الكفار ولكن المراد من الاستفهام “ألم تر” هو “ألم تعلم” فهذا إخبار من الله تعالى للرسول وللناس كافة ليطمئن قلبه ولا يصاب بالحزن بسبب كفرهم وضلالتهم. وكذلك في سورة الفيل “ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل..” فالرسول لم يعاصر هذه الواقعة، ولكن المراد من عبارة “ألم تر” هو ألم تعلم فهذا إخبار من الله تعالى. وكمثال الزمر 19 “أفأنت تنقذ من في النار ” هذا سؤال على المحال والنفي لأن الرسول ليست له شفاعة يوم القيامة ولا يمكنه إنقاذ أي احد من عذاب الله تعالى، ولأن الله تعالى قرر من ضمن سنته في الكون الذي خلقه أنه من يستحق عذاب جهنم يكون خالدا فيها أبدا ومن يستحق سعادة الجنة ورحمة الله عز وجل يكون خالدا فيها أبدا، فلا أحد يخرج أهل جهنم من عذابها ولا أحد يخرج أهل الجنة من سعادتها ورحمة الله تعالى.

وكمثال الزخرف 80 “أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون” فالحكم في الآية على صيغة تساؤل ولكنه يتضمن الجواب المقنع والمؤكد للحقيقة وهو عبارة “بلى ورسلنا لديهم يكتبون” فهذه العبارة أكدت ضمنيا أن الله فعلا وحقا يسمع ما يسر الناس فيما بينهم وما يعتقدون سرا في أنفسهم ويسمع ما يتداوله ويتحاور به الناس جهرا. وتؤيد ذلك التوبة 78 ” ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب”. وكمثال الشعراء 221 “هل أنبئكم على من تنزل الشياطين” هذا الاستفهام والتساؤل المراد منه إثارة الانتباه وتأكيد الحقيقة بالجواب اللاحق للإقناع وقد ورد في الشعراء 222- 223 “تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون”. وكمثال العنكبوت 2 “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون” والجواب في الآية اللاحقة للعنكبوت 3 ” ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين”. وهذا بيان للحقيقة وهي أن الله تعالى يختبر المؤمنين ويبتليهم لمعرفة ما إذا كان إيمانهم صادقا أم مجرد نفاق، وطبعا المنافقون في الدرك الأسفل من النار كما أكدت ذلك النساء 145 إلا الذين تابوا وآمنوا بصدق وأصلحوا واتقوا.

وكمثال الزمر 32 ” فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه، أليس في جهنم مثوى للكافرين” هذا السؤال موجه لعقل الإنسان، ومعناه هو هل هناك من هو أكثر ظلما من الذي يكذب على الله تعالى ولا يصدق بالقرآن، وفعلا الذي يكذب على الله تعالى، و لا يصدق بالقرآن أكثر ظلما في الوجود وجزاؤه جهنم، وهذا الجرم أكبر الكبائر التي حرمها الله تعالى، فالمراد من السؤال في هذه الآية إشراك العقل البشري للبحث عن الحقيقة لإقناعه.

وكمثال عن الاستفهام في آيات القرآن سورة الرحمان التي تكرر فيها التساؤل الآتي “فبأي آلاء ربكما تكذبان” عدة مرات بعد كل حكم شرعي أي في الآيات 13 و   16- 18 – 22 – 23 – 25 – 28 – 30 – 32 – 34 – 36 – 38 – 40 – 42 – 45 – 47 – 49 – 51 – 55 – 57 – 59 – 61 – 63 – 65 – 67 – 69 – 71 – 73 – 75 – 77. هذا التساؤل دعى فيه الله تعالى الإنس والجن إلى التصديق بآياته وقرآنه.

المحور الثاني : دلالة صيغة الفعل الماضي والفعل المضارع في القرآن

الفعل الماضي في اللغة العربية يدل على فعل وقع في زمن مضى وليس حاضرا ولامستقبلا، والفعل المضارع يدل على فعل حدث في الحاضر الذي نحن فيه أو سوف يقع في المستقبل. و لكن في القرآن يدل الماضي والحاضر على تأكيد الإخبار واليقين رغم أنه ليس في موضعه، لهذا يجب فهم المقصود من الفعل في إطار المعنى الإجمالي للآية سواء كان على صيغة الماضي أو على صيغة المضارع. فالفعل الماضي في آيات القرآن قد يدل على استمرار وقوعه حتى في الحاضر والمستقبل، مثلا الفتح 7 “وكان الله عزيزا حكيما” الله تعالى كان عزيزا حكيما في الماضي وهو كذلك في الحاضر والمستقبل، والنساء131 “وكان الله غنيا حميدا” والنساء 32 – 33 – 35 – 92 – 104 – 130 والنساء 134 “وكان الله سميعا بصيرا” فالماضي يدل على الاستمرارية ماضيا ومستقبلا في هذه الآيات.

وكمثال الكهف 107 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها” فالفعل الماضي ” كانت لهم ” لا يخص فقط المؤمنين الذين عملوا الصالحات فيما مضى من الزمن، بل يدل الماضي هنا على استمرار مدلول الآية وحكمها الشرعي، فكل الذين آمنوا وعملوا الصالحات حاضر ومستقبلا يدخلون الجنة خالدين فيها، وتؤيد ذلك آيات كثيرة في القرآن.

وكمثال البقرة 34 “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين” فإبليس كان كافرا عندما رفض السجود لآدم ولكنه بعد أن أنزله الله إلى الدنيا مع آدم وزوجته مستمر في الكفر حاضرا ومستقبلا.ومثلا النحل 98 ” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم” فالمدلول أنه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الاستعاذة من الشيطان يجب أن تكون قبل الشروع في قراءة القرآن وليس بعد الإنتهاء منها كما يدل على ذلك ظاهر النص “فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم”. ونفس التفسير نعطيه للمثال الثاني في المائدة 6″إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إلى الكعبين” لا يمكن للإنسان أن يقيم الصلاة قبل الوضوء أو التيمم في حالة المرض أو فقدان الماء، فالمراد من الآية ما يلي : إذا أردتم القيام للصلاة فتوضؤوا، لهذا يجب فهم المقصود من الفعل الوارد في الآية القرآنية في إطار معناها الإجمالي سواء كان على صيغة الحاضر أو المستقبل أو الماضي.

والفعل على صيغة المضارع في آيات القرآن يراد به التبليغ وإثارة اهتمام العقل البشري وتحضيره والدلالة كذلك على إمكانية استمرار حدوثه حاضر ومستقبلا. وكمثال سورة هود 101 “فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب” فرغم أن هؤلاء المشركين حشروا بعد البعث للحساب في الآخرة فإنهم بقوا مخلصين لعقيدة الشرك، ويدل على ذلك الفعل المضارع في الآية “يدعون من دون الله” وكمثال القمر 19 -20 “إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر”. فالفعل المضارع “تنزع الناس” دل على واقعة ماضية تتعلق بمعاقبة الكفار. ولكن صيغة المضارع تدل على شدة الفعل وإمكانية حدوثه في الحاضر والمستقبل في إطار معاقبة الله تعالى لكفار عصرنا أو كفار العصور القادمة في المستقبل.

وكمثال الأعراف 27 “يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما” فعصيان الشيطان لله تعالى حين رفض السجود لآدم، وإغواؤه لآدم وحواء بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها حدث ماضي والدليل هبوطه بعد ذلك مع آدم وحواء إلى أرض الدنيا بأمر من الله عز وجل، والدليل أننا ذرية وسلالة آدم وحواء في هذه الدنيا، ولكن فعل ينزع عنهما لباسهما على صيغة المضارع لإعطاء أهمية النزع في الماضي والمستقبل لأن إغواء الشياطين للناس كان في الماضي ويكون في الحاضر والمستقبل لأنه ابتلاء من الله تعالى لقوله تعالى في سبأ 21 “وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك “.

وكمثال النحل 2 “ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون” الفعل ينزل على صيغة المضارع، ولكنه يدل على الإستمرارية في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الله تعالى فعلا نزل ملائكته على من يشاء من عباده مثل الرسل والأنبياء وغيرهم من المؤمنين الصالحين مثل مريم بنت عمران، والله تعالى قادر على أن ينزل ملائكته على من يشاء من عباده في كل زمان ومكان حاضرا ومستقبلا.

وكمثال النحل 61 “ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى” رغم أن الفعل يؤاخذ على صيغة المضارع فإنه يدل على الاستمرارية في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الله تعالى قد آخذ الكثيرين على ظلمهم وحاسبهم وعاقبهم والدليل أنهم في عذاب جهنم كما أكد القرآن أو أنهم يعانون حاليا من عذاب الله تعالى في الدنيا، وقد لاحظت الكثير من الظالمين قد أصيبوا بالعمى التام وهم مقعدون لا يستطيعون الحركة والكلام جزاء على طغيانهم وظلمهم.

           و كمثال الأعراف 156 ” و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون ” رغم أن الفعل الوارد في هذه الآية “فسأكتبها” على صيغة المضارع فإن الله تعالى قد كتب فعلا رحمته الواسعة للذين اتقوا و آمنوا إيمانا صادقا بشرائع الله المنزلة و التزموا بحدودها و عبدوا الله تعالى و أطاعوه و أحبوه حتى الموت. و الدليل أنهم ينعمون في رحمة الله تعالى في الدنيا و الجنة في الآخرة. و الدليل أن الله الصادق الحق قد أخبرنا في القرآن أن أصحاب الجنة ينعمون في رحمته قبل نزول القرآن. و الدليل الأنبياء 85-86 ” و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل كل من الصابرين و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ” و لو قمنا بدراسة ميدانية في الدنيا لملاحظة أحوال المؤمنين الصالحين الصادقين المتقين و تحليلها فإننا نتأكد بأنهم ينعمون فعلا و يتمتعون برحمة الله تعالى التي كتبها لهم و السكينة و الطمأنينة و السعادة. فالفعل المضارع ” سأكتبها ” في الأعراف 156 يدل على استمرارية في الماضي و الحاضر و المضارع.

د- مدلول تكرار بعض قصص وأحكام آيات القرآن

كثير من أعداء الإسلام ادعوا أن في القرآن تناقض بين آياته واعتبروه عيبا في التشريع يمس مصداقيته، وهذا كما بينت سابقا غير صحيح وكذب على الله تعالى الذي قرر بقضائه وقدره المطلق العادل تدرج التربية الإسلامية للمجتمع الإسلامي حيث نسخ ما شاء من الآيات وعدل جزئيا منها ما شاء حسب متطلبات مصالح الناس. ولكن بقيت الآيات المنسوخة والمعدلة جزئيا في مصحف القرآن رغم تعارضها كشاهد على التطور التشريعي التدريجي الإسلامي. وفي نفس المجال ادعى أعداء الإسلام أن تكرار الأحكام والقصص في القرآن نقص وعيب وضعف وركاكة، وهذا غير صحيح لأنهم لم يفهموا فلسفة القرآن ومقاصده وأساليبه ولأنهم يجهلون اللغة العربية وقواعدها.

فتكرار القصص والأحكام في القرآن بإرادة الله تعالى وقدره المراد منه تأكيد فائدة بيانية وعلمية وتشريعية ودينية. والدليل يوسف 111 “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” الله تعالى أكد معنى وحكم الآية عدة مرات لتبليغ المراد والإقناع وتحقيق الغاية ومنها التصديق والإيمان والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والموعظة وبيان المنكر والمعروف والسيئات والحسنات والجزاء المخصص لها بعد الحساب في الآخرة.

فالمراد بالتكرار الإقناع والتذكير وتأكيد الأحكام الشرعية وتفصيلها رغم اختلاف عباراتها وأساليبها. فالتكرار زيادة في الفهم والشرح والتفسير بين آيات القرآن لأن القرآن يفسر بعضه بعضا والدليل القيامة 18-19 “فإذا قراناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه” والقمر 17-22-32-40 “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر” والتوبة 115 “وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم” ولهذا فإن الله تعالى بين آيات القرآن وفسرها ببعضها، ولهذا تكررت أحكام شرعية لها مضمون واحد ولكن بشكل تفصيلي وتأكيدي وتوضيحي كالآيات التي تبين وتفسر الأحكام المجملة والمبهمة.

وقد كرر الله تعالى ذكر قصص الرسل والأنبياء والشعوب السابقة في عدة آيات من القرآن لكي يستفيد منها الناس ومن عبرها وحكمتها، والدليل هود 120 “وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك  وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين” والحاقة 12 “لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية” فقصة رسول الله موسى عليه السلام مع فرعون الذي طغى وتجبر وكفر بالتوراة دليل وبرهان على قضاء الله تعالى وقدره المطلق العادل الذي لا يغلبه احد في الأرض ولا في السماء فقد أغرق الله تعالى فرعون والكفار الذين اتبعوه في البحر الأحمر ونجى موسى والذين آمنوا معه، فبين الله عز وجل الحكمة والعبرة من هذه القصة في الزخرف 54 -59 “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا و مثلا للآخرين”.

و هذه القصة تبين أن الله تعالى حرم طاعة الحكام الظالمين بل أمر بمقاومتهم لإنهاء ظلمهم وفرض تطبيق القرآن وإقامة العدل في المجتمع الإسلامي، والدليل النساء 75. فتكرار الآية أو القصة في القرآن يراد منه التذكير والزيادة في الفهم والتفسير والشرح، وكمثال قصة نبي الله نوح عليه السلام الفرقان 37 “وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما”. تكررت القصة في الشعراء 119 -120 “فأنجبناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين” فالآيات رغم تكرارها فإنها تفسر بعضها بعضا، لهذا فالتكرار في القرآن جزء من شرع الله تعالى فيه فائدة مهمة تساعد على فهم واستنباط الأحكام الشرعية من القرآن ولا يمكن حذفه أبدا.

وأعطي أمثلة أخرى عن تكرار الآيات والأحكام الشرعية في القرآن ومنها البروج 11 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار  ذلك الفوز الكبير” فالحكم الشرعي في هذه الآية هو أن الإيمان لا فائدة منه إذا لم يتجسد في العمل الصالح وهو طاعة الله والتقوى والإلتزام بأحكام وحدود القرآن سرا وعلانية حتى الموت، فالمؤمن الصالح المتقي الصادق هو الذي ينال الحياة الدائمة في سعادة الجنة ورؤية الله تعالى وينال رحمته في الدنيا كذلك، هذا الحكم في البروج مكرر عشرات المرات في آيات أخرى من القرآن وأذكر منها السجدة 19 والحج 14 والحج 23  وسبأ 37 وفصلت8 والشورى26 والجاثية 21 وسورة محمد 2 و 12 والفتح 22 والطلاق 11 والإنشقاق 25 والتين 4-6والعصر1-3. وهناك العديد من الآيات الأخرى المؤكدة لنفس الحكم الشرعي المذكور في البروج 11.

وكمثال عن تكرار الأحكام الشرعية الفتح 28 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله” والصف 9 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون”. فالمراد من  التكرار هو الإقناع والتذكير وتأكيد المضمون بين الأحكام الشرعية المكررة لحصول الفائدة واليقين

وكمثال عن التكرار لتأكيد مضمون الحكم الكافرون “قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما اعبد لكم دينكم ولي دين” هذه السورة تكرر معناها مع بعض ألفاظها في سورة يونس 104 “قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين”.

وهناك البقرة 238 “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ” وهذا تأكيد وتكرار لقوله تعالى في النساء 103 “إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا” فأداء كل الصلوات المفروضة يجب أن يتم في وقت كل صلاة، وقد كرر الله تعالى الصلاة الوسطى في الآية وهي صلاة العصر، وهذا تأكيد وتنبيه على أهميتها. وفي سورة المرسلات تكررت آية “ويل يومئذ للمكذبين” عشرة مرات وهم المكذبون بالقرآن والحساب في الآخرة بعد البعث وهي الآيات 15-19-24-28-34-37-40-43-47-49. والهدف من هذا التكرار التحذير والوعيد بعد كل حكم شرعي في سورة المرسلات. ونفس التكرار نجده في سورة القمر حيث آية “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر” تكررت أربع مرات وهي الآيات 17-22-32-40. وهي دعوة من الله تعالى مكررة للناس ليتدبروا القرآن ويفهموه ويتبعوه.وفي سورة الرحمان تكررت أية “فبأي آلاء ربكما تكذبان” واحد وثلاثين مرة ، وهي الآيات 13 – 16 – 18 – 21 – 23 – 25 – 28 – 30 – 32 – 34 – 36 – 38 – 40 – 42 – 45 – 47 – 49 – 51 – 53 – 55 – 57 – 59 – 61 – 63 – 65 – 67 – 69 – 71 – 73 – 75 – 77.

فبعد أن أعطى الله تعالى البراهين والأدلة الدالة على وجوده وقضائه وقدره المطلق العادل وعلى صدق قرآنه وجه للإنس والجن هذا الاستفهام الذي تضمنته الآيات المذكورة “فبأي آلاء ربكما تكذبان” وذلك لمعاتبتهم وتأنيبهم وحثهم على الإيمان بالله وبالرسل والقرآن وأتباعه، ولو بقي الذين نزلت عليهم هذه الآية من الإنس والجن في أوائل القرن السابع الميلادي لو بقوا أحياء حتى عصرنا هذا لتأكدوا من صدق القرآن حتما لأنهم يشاهدون الإنسان وهو يتنقل بين أقطار السموات والأرض و ينزل فوق سطح القمر كما شاهدته الملاين من البشر تصديقا لقوله تعالى في الرحمان 33 “يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان”. وطبعا عند نزول هذه الآية لم يكن الناس في العالم كله يعرفون أقطار السماوات والأرض وكانت وسائل تنقلهم الأساسية الحمير والبغال والخيل والجمال، لهذا فتكرار الآيات في القرآن جزء من التشريع الإسلامي له أهمية بالغة هي التأكيد والتذكير والتفسير والبيان والوعد والوعيد. وأختم هذه النقطة حول تكرار الأحكام الشرعية بحكم شرعي مهم ويكتسي أهمية خطيرة في سورة يونس 69 – 70 “قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون”. ونظرا لخطورة الكذب على الله وشدة العقاب عنه تكرر حكم الآيتين في آيات أخرى كثيرة في إطار الوعيد والتأنيب والتحذير وإنذار الناس، ومنها يونس 17 “فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون” والأنعام 144 “فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين” وهود 18 “ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين” وقد تكرر نفس الحكم الشرعي في آيات أخرى منها العنكبوت 68 والأنعام 21 والكهف 15 والزمر 32 فتحروا الصدق والحق أيها العلماء والدعاة المحترمون عند تفسير القرآن لتنجوا من عذاب الله تعالى وتفوزوا برحمته وجنته، ولهذا سوف أختم هذه القاعدة الأساسية من قواعد فهم القرآن وهي إتقان اللغة العربية وقواعدها بتوضيح المسؤولية الجسيمة الملقاة على علماء الإسلام لاستنباط أحكام القرآن الشرعية وحدوده.

هـ -المسؤولية الجسيمة الملقاة على علماء الإسلام في كل عصر

أحكام وحدود القرآن صالحة لكل زمان ومكان لأن الله تعالى أنزلها لكافة الناس في العالم ولأنها حددت نظاما شاملا اجتماعيا ودينيا واقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا، والقرآن بحر من العلوم والقواعد والمبادئ والنظم والقوانين والشرائع التي تجسد وتؤكد حكمة الله تعالى، ولكن لا يمكن إدراكها بدون توفر مستوى مهم من العلم والمعرفة وإتقان اللغة العربية وقواعدها وقواعد وعلوم فهم القرآن وتفسيره واستنباط أحكامه الشرعية، فالجاهل لا يستطيع فهم القرآن وكذال الذي لا يتقن اللغة العربية و قواعد فهم القرآن. لهذا فرض الله على علماء الإسلام مهمة شرح وتفسير  القرآن وتبليغه للناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وبعده في كل زمان و مكان، والدليل النحل 64 ” و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ” فقد نسخت الآية السابقة لها النحل 44 ” و أنزلنـا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون ” والتوبة 122 ” و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون “و إبراهيم 52 “هذا بلاغ للناس ولينذروا به “. فالعلماء ينذرون الناس بالقرآن فريضة من الله و الدليل النحل 43 “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” هذه الآية تفرض على من يجهل أحكام القرآن وحدوده بأن يسأل عنها العلماء والفقهاء وأهل الذكر وهم أهل القرآن المؤمنون الصالحون المتقون الذين لهم إلمام بعلوم القرآن والدراسات الإسلامية، وقد خصص الله تعالى عذابه لهم إذا لم يقوموا بالواجب المفروض عليهم. والدليل البقرة 159-160 ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدىٰ من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولٰئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولٰئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ” و البقرة 174 ” إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم “. وقد أمر الله تعالى علماء الإسلام بالدفاع عن الإسلام وشرح القرآن وتبليغه للناس، والدليل الصف 14 “يأيها الذين أمنوا كونوا أنصار الله” أي حافظوا عن الإسلام وهو دين الله تعالى الحق، وقد فرض الله تعالى على علماء الإسلام الصالحين المتقين شرح وتفسير القرآن لكي يبينوا للناس ما هو منكر وما هو معروف والدليل التوبة 71 “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”. و آل عمران 110 “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” لهذا يجب على المسلمين والأمة الإسلامية ومنها علماء الإسلام الصادقون المتقون فرض تطبيق أحكام القرآن و حدوده في دار الإسلام في صيغة قوانين وضعية يطبقها بعدل وبصرامة أولو الأمر والحكام المنتخبون من طرف الشعب المسلم أو الأمة الإسلامية، وبذلك يتكون المجتمع الإسلامي الحق الذي لا يعبد فيه إلا الله تعالى ويكون المسلمون فيه إخوة متعاونين متضامنين كما أمر الله تعالى في القرآن.

ولهذا سأتعرض في هذه النقطة لأهمية دور العلماء في شرح وتفسير وتبليغ القرآن للناس في المحور الأول، وفي المحور الثاني أتعرض لوجوب صدق العلماء في تفسير القرآن دون تحيز. و أختم بالمحور الثالث حول وجوب اجتهاد العلماء في كل عصر لإيجاد التفسير الملائم للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتطورة في إطار الإلتزام بثوابت القرآن لأن أحكام القرآن صالحة لكل زمان ومكان، والله تعالى الذي شرعها في بداية القرن السابع الميلادي يعلم هذا التطور الذي حدث والذي سوف يحدث مستقبلا.

المحور الأول: أهمية دور علماء الإسلام في شرح وتبليغ وتفسير القرآن للناس

علماء الإسلام هم المؤمنون الصالحون الصادقون المتقون في كل أنحاء بلاد المسلمين بدار الإسلام، وقد بلغوا هذه المرتبة بفضل الجهود التي بدلوها للدراسة والتحصيل والتعلم فأتقنوا اللغة العربية وقواعدها وعلوم القرآن وقواعد وعلوم تفسيره. فكل إنسان يولد جاهلا، وينمو عقله ويتكون بالتدريج حسب التربية والتكوين الذي يتلقاه من أسرته ومدرسته ومحيطه ووسائل الاتصال وأدواتها المختلفة وبكل وسائل المعرفة والدليل النحل 78 “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون”. هناك آيات كثيرة في القرآن أكد فيها الله تعالى على استعمال الإنسان لعقله لتدبر آيات الله تعالى في القران وآياته المطابقة لها في الكون والنفس البشرية الدالة على وجوده وصدق قرآنه. ومنها المائدة 100 “فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون” والبقرة 269 ” وما يذكر إلا أولوا الألباب” والألباب هي العقول النيرة العالمة والعارفة، فعلماء الإسلام هم أصحاب عقول قرآنية نيرة وعالمة بشرع الله وتفسيره ، لا يمكن لمن تغيب عقله بسبب سيطرة القلب أو لأسباب أخرى أن يدرك ويفهم القرآن، فالإنسان الحكيم العالم إذا وضعت له مخدرات في أكله دون علمه ينهار عقله ويغيب ويتصرف تصرفات لا أخلاقية ويرتكب المعاصي دون شعور، وعندما يصحوا من تخديره ويعود له عقله يندم عما فعل ولا يصدق به، ويعتبره مخالفا لشرع الله تعالى، هذه الحالة تأكدت منها في عدة مرات بمشاهدتي ومعاينتي.

أمر الله تعالى الناس باستعمال العقل السليم والعلم لفهم آيات القرآن والكون لأنه يعلم أن الذي يسيطر عليه قلبه ويتبع هوى النفس الأمارة بالسوء والشهوات والعواطف والنزوات والإنفعلات دون تحكيم العقل ينحرف عن الصراط المستقيم ويكذب بالحق ويتبع الباطل، ومما يدل على أهمية علماء الإسلام في تفسير القرآن للناس الآيات التي مدحهم فيها الله تعالى وخصص لهم فيها أحسن الجزاء ومنها : المجادلة 11 “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” والزمر 9 “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب” والعنكبوت 49 “بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآيتنا إلا الظالمون”وآل عمران 18 “شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم” فالعلماء يدعون إلى الله ويفسرون القرآن للناس، لهذا خصص لهم مرتبة مهمة في الجنة إذا كانوا مؤمنين صادقين متقين صالحين، والدليل فصلت 33 “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين” و محمد 7 “يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ” والأحزاب 39 “الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وكفى بالله حسيبا” وآل عمران 175 “إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين” فالعلم والمعرفة و إتقان اللغة العربية وقواعد فهم القرآن كلها  عوامل تمكن الإنسان من معرفة أحكام القرآن بنفسه فيكون إيمانه صادقا مبنيا على اليقين والإقتناع. أما الذي لا يتوفر  على ذلك ويؤمن استنادا إلى التقليد أو لجلب مصالح فسرعان ما ينهار إيمانه المزيف ويعود إلى الكفر، والدليل الحج 11 “ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين”. إن عبادة الله واجبة شرعا كيفما كانت الأحوال مناسبة أو غير مناسبة، ولهذا خلقنا الله تعالى، ولكن لا يعبد الله تعالى بالجهل وإنما بالعلم ومعرفة المناسك والأحكام الشرعية. ولكن الجاهلين أمرهم الله تعالى بطلب معرفة الدين والقرآن من علماء الإسلام والفقهاء وهم أهل القرآن والذكر، والدليل النحل 43 “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” والنساء 83 “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” والتوبة 122 “فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا  قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” و يونس 89 “ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون” و الأعراف 199 “وأعرض عن الجاهلين” كل هذه الآيات تدل على أهمية دور العلماء والفقهاء والأستاذة الباحثين المختصين في علوم القرآن والدراسات الإسلامية في مجال تفسير القرآن للناس وتبليغه لهم لهذا قال تعالى في الجاثية 18 ” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون “.

فسورة النحل 43 فرضت واجبين الأول على الجاهلين بأن يسألوا علماء الإسلام وأهل القرآن عن معرفة أحكامه الشرعية والثاني واجب على علماء الإسلام وأهل القرآن أن يبينوا القرآن للناس ويفسروه لهم وأن يجيبوا  عن تساؤلات الذين لا يعلمون، وهذا واجب ليس له مقابل إلا جزاء الله تعالى وإحسانه في الآخرة ورحمة الله أيضا في الدنيا.

والعلماء وسائر المسلمين فرض عليهم الله تعالى الجهاد بالنفس والمال وبكل ما في استطاعتهم كالدعوة الإسلامية وشرح القرآن وتفسيره وتبليغه للناس في العالم كله لأنه منزل لكافة الناس، والأدلة منها الحجرات 15 “إنما المؤمنون  الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون” ولكن العلماء وأهل الذكر الذين هم فقراء و محتاجون إذا كانوا يشتغلون بالدعوة الإسلامية ويعلمون القرآن ويفسرونه للناس فيجب إعطاؤهم أجرة من المال العام والصدقة والزكاة لأنهم لا يستطيعون العمل لكسب القوت، والدليل البقرة 273 “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف”. فالمسلمون منهم العلماء والفقهاء الصالحون المتقون يجب أن يجاهدوا بمختلف الوسائل الممكنة وحسب استطاعتهم الصحية والمالية والعسكرية لفرض إقامة المجتمع الإسلامي الحق الذي يطبق فيه القرآن في صيغة قوانين وضعية تتفق عليها الأمة الإسلامية ومنها علماء الإسلام المتقون الصادقون وتنتخب أولي الأمر والحكام الذين يمارسون السلطة الإسلامية تحت مراقبتها ومراقبة كافة المسلمين في دار الإسلام وبذلك تسود الأخوة بين المسلمين التي فرضها الله تعالى في الدنيا والآخرة ويسود العدل والسلم والأمن والإزدهار في إطار عبادة الله تعالى والالتزام بأحكام القرآن وحدوده.

المحور الثاني: علماء الإسلام ملزمون شرعا بالصدق في تفسير القرآن.

الله تعالى فرض على علماء الإسلام وعلى الأمة الإسلامية شرح وتفسير وتبليغ وفرض وتطبيق القرآن في دار الإسلام، فعليهم تدبر آيات القرآن والبحث في معانيها وأحكامها وحدودها الشرعية بشكل دقيق وصحيح يكون مطابقا لما أراده الله تعالى ومقاصده. وعليهم الإدراك الصحيح والحقيقي لقول الله وكلامه وأوامره ونواهيه التي حددها في آيات القرآن. وطبعا إرادة الله تعالى في آيات القرآن واحدة لا تتجزأ ولا تحتمل وجهين مختلفين. ومن ادعى بالإختلاف حول تفسير القرآن كذب على الله تعالى.لهذا يجب على علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام الإتفاق حول الأحكام الشرعية التي تأكدت أدلتها لدى أغلبيتهم المطلقة أو بالإجماع، لهذا فكل فتوى فردية أو تفسير للقرآن باطل إذا لم يصادق عليه كافة علماء الإسلام في بلاد الإسلام أو تصادق عليه أغلبيتهم المطلقة على الأقل لهذا فإن فتوى شيخ الأزهر أو مفتي الدول الأخرى باطلة و تبرير لاستبداد الحكام و تحريف القرآن. ولكن يشترط شرعا في من يفسر القرآن أن يكون مؤمنا صالحا صادقا متقيا لأن الكافر والمنافق لا يفسر القرآن بصدق بل يتأثر بهواه وعدائه لله وللمسلمين، ومن الأدلة النساء 89 “ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ” فالإيمان الصادق والتقوى يفرضان على مفسر القرآن الصدق والموضوعية لأن العقل القرآني هو الذي يفسر القرآن بموضوعية ولا بد من توفر العلم وإتقان اللغة العربية لتفسير القرآن، ومن الأدلة الحج 54 “وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبث له قلوبهم”. ومن شروط تفسير القرآن الإلمام بعلومه وقواعد فهمه، ويجب تحري الصدق والموضوعية في تفسير القرآن دون التأثر بالهوى والمصالح أو تلبية رغبات الحكام والكفار وغيرهم، لهذا يجب الحذر من الذين سموا أنفسهم علماء ويحرفون القرآن والسنة ويفرقون بين المسلمين فجعلوهم مذاهب وفرق وشيع متعارضة لإضعافهم وفتنتهم. فتوحدوا أيها المسلمون تحت ولاية الله تعالى التي يجسدها منهجه الحكيم وهو القرآن. فلا يجوز شرعا الإختلاف حول ما يصادق عليه علماء الإسلام بإجماعهم أو أغلبيتهم المطلقة، والدليل البقرة 176 “ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ” والأنعام 159 “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء” والروم 31-32 “ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون” وآل عمران 103 “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” وحبل الله هو القرآن بل خصص الله تعالى العذاب الشديد للذين يفرقون المسلمين ولا يوحدونهم حول القرآن، والدليل آل عمران 105 “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم” فتدبروا هذه الآيات يأ أصحاب الفرق والمذاهب والجماعات المتصارعة وعودوا إلى رشدكم وتجردوا من تأثير الهوى والنفس الأمارة بالسوء ومن إغواء الشياطين وأوليائهم الكفار والمنافقين، وكيف تدعون الإسلام وأنتم من أصحاب جهنم إذا لم تتوبوا بصدق أيها الذين قرقوا المسلمين.

و استنادا لأمر الله تعالى في النحل 43 هناك واجب مفروض من الله تعالى على علماء الإسلام وأهل الذكر بأن يكونوا صادقين وموضوعيين في تفسير القرآن وشرحه وتبليغه للناس، الأدلة الشرعية على ذلك منها البقرة 159 – 160 – 174 والنحل 25 والنساء 83. وقد حرم الله تعالى تحريف القرآن والكذب عليه وخصص العذاب الشديد لمن يفعل ذلك، والأدلة منها هود 18 “ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين” والبقرة 79 “فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون”وآل عمران 77 “إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا بنظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم” والأنعام 144 ” فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ” والأنعام 144 “فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس” والأعراف 33 ” قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون” الله تعالى حرم تحريف القرآن والكذب عليه سواء على الرسول عليه صلاة الله وسلامه أو العلماء وغيرهم، والدليل الحاقة 43 -47 “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين” ويونس 15 ” وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ” والأنعام 115 “وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم” والنساء 87 “ومن أصدق من الله حديثا”. فاحذروا عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة أيها المفسرون للقرآن ولا تقولوا على الله إلا الحق وتحروا الصدق والموضوعية ولا تتحيزوا إلى جهة معينة مقابل الإمتيازات والمصالح ولا تخافوا من غير الله تعالى لأنه قادر على حمايتكم لأنه القاهر فوق العباد ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أبدا. فمن شروط الإيمان الخوف من الله وحده، والدليل آل عمران 175 “إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ” و التوبة 13 ” فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ” والأحزاب 39 ” شالذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله”. وعلماء الإسلام ملزمون بتبليغ القرآن وتفسيره للناس في العالم، فعليهم أن لا يخافوا إلا الله تعالى.

وأختم هذا المحور الثاني ببيان الواجب على الأمة الإسلامية والمسلمين بأن ينظموا مؤسسات لإقامة علاقات وطيدة بين العلماء المسلمين وأهل الذكر الصالحين المتقين والصادقين في دار الإسلام وتمكينهم من التواصل والتحاور وتبادل الآراء والبحوث الإسلامية للتوصل إلى التفسير الحقيقي للقرآن والتعاون من أجل تبليغه لكافة الناس في العالم، ويجب توحيد الأمة الإسلامية ومنع وجود فرق وشيع ومذاهب مختلفة لأن الله حرمها، وخصص العذاب لمن يفرق المسلمين، وعلى السلطة الإسلامية في بلاد الإسلام تنظيم مؤسسات لتكوين العلماء المسلمين والدعاة الصادقين، والدليل أمر الله تعالى في عدة آيات منها التوبة 122 و النحل 43 والبقرة 159 و174.

ويجب أن تخصص أجرة شهرية لعلماء الإسلام وأهل الذكر المحتاجين والذين يتفرغون لشرح القرآن وتبليغه للناس وتحفيظه لهم لأنهم لا يستطيعون القيام بهذا الواجب إذا اشتغلوا بما يوفر لهم حاجياتهم من الطعام وغيره.

المحور الثالث : اجتهاد علماء الإسلام واجب شرعي لمسايرة التطور بشرط احترام ثوابت القرآن

الله تعالى أنزل شرائعه للناس لكي يلتزموا بها في الحياة الدنيا ولينالوا عن ذلك الجزاء في الآخرة، والقرآن خاتم هذه الشرائع وناسخها. لهذا كل إنسان ملزم بتطبيقه في حياته الدنيا، والأدلة كثيرة منها الزمر 55 ” و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون” والحديد 25 والبقرة 213 والأعراف 3 وقد فرض الله تعالى عل كل إنسان فهم القرآن وتدبر  آياته ومعرفة أحكامه ومن الأدلة محمد 24 وص 29 ولفهم القرآن لا بد من توفر مستوى من العلم، لهذا فعلماء الإسلام يتحملون مسؤولية جسيمة في هذا المجال منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ختى عصرنا وإلى ما شاء الله تعالى، ولكن نشأت صراعات وخلافات بين العلماء حول تفسير القرآن للناس وتفرقوا إلى مدارس ومذاهب وفرق وأحزاب كل فريق يدافع عن مصالح حزبية سياسية أو قومية وقبلية وعن مصالح خاصة وامتيازات مقابل إرضاء الحكام المستبدين وأعداء الإسلام الذين فرقوا المسلمين وجمدوا الفكر الإسلامي وأغلقوا باب الاجتهاد العلمي الصحيح فساهموا في تخلف المسلمين والسيطرة الأجنبية عليهم في دار الإسلام.

ولهذا سأتعرض في نقطة أولى لإعطاء الأدلة القاطعة التي تكذب الفرق والمذاهب التي تطالب بإتباع حرفي دون استخدام العقل للسنة النبوية وتفسير الصحابة والتابعين للقرآن. وفي النقطة الثانية أبين الأسباب التي توجب وتفرض على علماء الإسلام المؤمنين الصالحين الصادقين الاجتهاد المستمر لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة للتطور من آيات القرآن.

أولا : لا يجوز شرعا النقل الحرفي من السنة وتفسير الصحابة والتابعين

السنة النبوية هي تصرف الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول والعمل والإقرار الضمني، وهناك السنة المفسرة للقرآن ولكن لم تفسر إلا قليلا منه لأن النحل 64 فوضت للعلماء مساعدة الرسول في تفسير القرآن وتبليغه للناس، والله تعالى بين وفسر القرآن للناس. والسنة لا يجوز شرعا أن تخالف القرآن وهي ليست وحيا من الله تعالى، والأدلة على ذلك تجدونها في البحث الذي نشرته في موقعي بالانترنيت المذكور حول موضوع: “علاقة السنة بالقرآن”. الرسول لم يترك لنا سنة مكتوبة ومصادق عليها من طرفه بل كتبها عنه آخرون في مجلدات كثيرة ودون عرضها على القرآن للتأكد من صحتها، لأن كل سنة مخالفة للقرآن غير صحيحة ولا يجوز إتباعها، لأن الرسول ليست له سلطة تشريعية مخالفة للقرآن، فهو مبلغ للقرآن ومنذر به، والأدلة كثيرة منها فصلت 3-4″كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون” والكهف 56 “وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين” والأعراف 2 “كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين” لا يجوز النقل الحرفي من كل ما جاء في مذاهب ومدارس وفرق السابقين من المفسرين للقرآن والسنة، لأن كثيرا منهم قد وقع في أخطاء وتأثروا بنزاعات طائفية وعرقية وصراع على السلطة والمال، كما إنهم لم يعيشوا ظروف هذا العصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لهذا لابد من استمرار اجتهاد علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام لتفسير القرآن واستنباط الأحكام الشرعية من ثوابته، وما تتفق عليه أغلبيتهم المطلقة يلتزم به المسلمون في دار الإسلام.

وليس هناك منهج خاص بالرسول والصحابة كما يدعي السلفيون بغير حق لأن هناك منهج شرعي واحد لكافة المسلمين وهو القرآن أي منهج الله تعالى، ولو تصفح السلفيون والشيعة وغيرهم القرآن وفهموه لأدركوا ولعلموا فعلا أن الرسول والصحابة وكافة المسلمين ملزمون بإتباع منهج الله تعالى وهو القرآن، والأدلة كثيرة منها الجاثية 18 “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها” ويونس 15 ” وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ” والحاقة 43 – 47 والزمر 55 “واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون”. ألم يعلموا أن الرسول والصحابة ليس لهم منهج خاص بهم ولا هدي بل هم عباد الله تعالى مثل سائر عباده ملزمون بإتباع منهج الله تعالى وهو القرآن ألم يوجه الله تعالى عشرات النداءات في القرآن للناس يحتهم على استعمال عقولهم لفهم القرآن وإدراك آيات الله في الكون والنفس البشرية المتطابقة مع آيات القرآن؟ فالمؤمنون يجب أن يلتزموا بما اتفقت عليه الأغلبية المطلقة لعقول علماء الإسلام الصالحين والصادقين في كل بلاد الإسلام، ولكن أين الأدلة على ذلك؟ أحيلكم على بحث نشرته بموقعي المذكور بالانترنيت حول موضوع “إستعمل عقلك أيها الإنسان في كل مكان لتتأكد من صدق القرآن”. فلا داعي لتكرار الأدلة، وأقول لأصحاب هذه الإتجاهات المعرضة عن جهل أو عن قصد بأن منهج الرسول والصحابة والتابعين لا يجوز شرعا أن يكون غير القرآن الذي هو منهجنا نحن كذلك ومنهج من سيأتي بعدنا إلى ما شاء الله تعالى.

لهذا لا يجوز شرعا إتباع حديث أو تفسير للقرآن من الصحابة وغيرهم إلا إذا كان مطابقا للقرآن، وفي هذه الحالة فإن التفسير النبوي وتفسير الصحابة يساعد علماء الإسلام على فهم القرآن واستنباط أحكامه الشرعية، ولكن يجب الحذر لأن هناك أحاديث غير صحيحة منسوبة كذبا للسنة وتفاسير لبعض الآيات مخالفة للحقيقة القرآنية ومنسوبة كذبا لبعض الصحابة استغلالا لسمعتهم العلمية. كما أن هناك تفسير بعض الصحابة والتابعين لم يحترم المنهج العلمي لتفسير القرآن حيث فسروا آيات حسب ألفاظها فقط دون مقارنتها مع باقي آيات القرآن لمعرفة الناسخ من المنسوخ والمقيد من المطلق والعام من المخصص له، ولم يفسر الكثير من الصحابة القرآن بعد اكتمال تشريعه وانتهاء نزوله حسب فلسفته العامة ومقاصده ونظامه الشامل الذي حدده الله تعالى، والتفسير يجب أن يستنبط ويستنتج من القرآن كله بعد اكتمال نزوله، وهذه القاعدة الأساسية في علم التفسير لم ينتبه لها الصحابة والتابعون الذين قلدوهم حرفيا دون استعمال العقل، كما أن أغلب المفسرين قد تأثروا بروايات الحديث الموضوعة والمنسوبة كذبا للسنة النبوية من طرف اليهود والنصارى وعملاء الحكام العرب وسائر أعداء الإسلام.

كما أن كثيرا من تفاسير الآيات القرآنية بقيت متداولة بين الناس رغم نسخها بآيات أخرى أو تعديلها جزئيا ومنها بعض الأحاديث المخالفة للقرآن، فلا يمكن إتباعها أي هذه التفاسير. لهذا فإن تفسير القرآن بالقرآن هو الأسلوب المثل والشرعي، وكل ما وافقت عليه الأغلبية المطلقة من علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام من تفسير لآيات القرآن يجب أن يتبعه المسلمون في كل دار الإسلام.ولكن لا يجوز اتباع فتوى تفسير القرآن صادر عن شخص واحد غير الرسول مهما كانت وضعيته إلا إذا صادق عليه علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام بالإجماع أو بالأغلبية المطلقة فلا تفسر الآية ولا يستنبط حكمها الصحيح إلا في إطار سياقها العام ومحورها وموضوعها الذي وردت فيه وبشرط مقارنتها مع كل آيات القرآن الأخرى لإدراك علاقة النسخ والإلغاء الكلي أو التعديل الجزئي كالتقييد والتخصيص. لهذا لا يجوز النقل الحرفي الأعمى من السنة وتفسير الصحابة وغيرهم، بل يجب استعمال العقل العالم القرآني المكون والمؤهل للاستفادة مما تركه السلف ولكن بشرط عدم قبول كل تفسير يخالف القرآن ولو كان سنة نبوية.

ثانيا : اجتهاد علماء الإسلام واجب لاستنباط الأحكام الملائمة للعصر من نصوص القرآن

لكي أعطي الأدلة الشرعية الدالة على وجوب فتح باب اجتهاد العلماء المسلمين لإيجاد الأحكام الشرعية واستنباطها من آيات القرآن لتكون مطابقة وملائمة لظروف العصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتطور الحضاري الإنساني سوف أبين بموضوعية وأمانة علمية المبررات الشرعية والعقلية التي تفرض الاجتهاد في النقطة الأولى، ولتوضيح هذه المسألة الهامة في تفسير القرآن أعطي أمثلة تطبيقية من القرآن مؤكدة لوجوب استنباط الأحكام الشرعية الملائمة للعصر وظروفه.

أ-المبررات الشرعية والعقلية لوجوب الاجتها

المبررات الشرعية التي تفرض اجتهاد علماء الإسلام لإيجاد واستنباط الأحكام والقوانين الملائمة لتطور وظروف العصر هي الآيات القرآنية التي فرضت فعلا هذا الاجتهاد المستمر لمسايرة التطور الحضاري الإنساني. والمبررات العقلية للاجتهاد هي تلك الأدلة المستمدة من المنطق والحق والموضوعية والتفكير الصحيح السليم للإنسان الذي ينبثق عن العقل البشري السليم. بالنسبة للعقل البشري فإنه أداة هامة لإدراك الحق وتمييزه عن الباطل، والله تعالى توجه بالقرآن إلى عقل الإنسان وحثه على الملاحظة والإستنتاج والمقارنة لمعرفة الحق وتمييزه عن الباطل و الاجتهاد المستمر لمعالجة قضايا المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتطورة وذلك باستنباط أحكامها من القرآن، ومن الأدلة على أهمية العقل كمبرر لاستمرار الاجتهاد في القرآن ما يلي :

آل عمران 190 “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب” والألباب هي العقول، والمائدة 100 “فاتقوا الله يأ أولي الألباب لعلكم تفلحون” والبقرة 44 “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون” والأعراف 169 “والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون” ويوسف 111 “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” أي العقول. طبعا متاع الدنيا مهما كان كما وكيفا، لا يساوي شيئا بالنسبة لمتاع الآخرة الدائم كما وكيفا. كما إن عذاب الله تعالى لا يفلت منه المعرض عن القرآن الظالم والفاسق، فكل من له عقل سليم يتأكد من أن إتباع القرآن وطاعة الله تعالى وفتح باب الاجتهاد لمسايرة التطور والنمو ضرورة لا بد منها. والدليل الرعد 19 “أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب” وللمزيد حول أهمية العقل للتأكد من صدق القرآن أحيلكم على بحث نشرته بموقعي المذكور بالانترنيت حول موضوع “إستعمل عقلك أيها الإنسان في كل مكان لتتأكد من صدق القرآن” وأما بالنسبة للمبررات الشرعية لاستمرار الإجتهاد في كل عصر وهي الأحكام الشرعية المستنبطة من القرآن فهي كما يلي :

– أولا: خلق الإنسان واستخلافه في أرض الدنيا بصفة مؤقتة يحتاج إلى قوانين وقواعد لتنظيم هذا الاستخلاف الذي هو ابتلاء وامتحان من الله. لمعرفة من يعود عنده الله ويعيش عيشة دائمة وأبدية في سعادة الجنة وهو الذي التزم بشرع الله وأطاعه وعبده، خلق الله الناس لعبادته والدليل الداريات 56 وخلقه أيضا لإعمار الأرض والدليل هود 61 “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”. لهذا انزل الله تعالى شرائعه لتنظيم استخلاف البشر في الدنيا من حيث التمتع بمتاع الدنيا وزينتها ومن حيث عبادة الله تعالى، وناسخ هذه الشرائع القرآن. لهذا لابد من استنباط الأحكام الشرعية والقوانين الملائمة للعصر من القواعد والأحكام العامة الواردة في نصوص القرآن. الله تعالى أمر بالإجتهاد لأنه يعلم أن التطور الحضاري والبشري حتمي منذ خلق آدم و عبر مراحل التطور الإنساني كما وكيفا، والدليل أن الله تعالى عدل ونسخ عدة شرائع بأخرى ونسخ وعدل عدة أحكام شرعية داخل الشريعة الواحدة مثل القرآن. فإعمار الأرض الذي أمر به الله الإنسان وظروف هذا الإعمار الواجب  تتغير وتتطور بعلم الله تعالى وخلقه، فالظواهر المتعددة والمتطورة من خلق الله تعالى وهو الذي خلق أسبابها، والعلماء في مختلف المجالات لا يخلقون شيئا وإنما يكتشفون بعلمهم ما خلق الله للبشرية، لهذا فإن ضرورات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتطورة مع تزايد عدد البشر  تحتاج إلى فتح باب الاجتهاد المستمر لإيجاد أحكام وقوانين ملائمة للعصر  مستنبطة من القرآن.

ولكن أعداء الإسلام أغلقوا باب الإجتهاد وفرضوا على المسلمين إتباع الأحاديث المنسوبة كذبا للسنة والنقل الحرفي عن السلف والسابقين في العصر  الإسلامي الأول دون استعمال العقل وبذلك جمدوا الفكر الإسلامي وعرقلوا تطور المسلمين مما تسبب في كفرهم والخضوع لاستعمار الكفار الذين تفوقوا عليهم في كل المجالات العلمية والعسكرية والاقتصادية والتقنية.

لقد أغلق الحكام العرب باب الاجتهاد للمحافظة على نظام الاستبداد والظلم والتخلف وخدمة مصالح الكفار، وتحالفوا مع عملائهم الذين سموا أنفسهم علماء بدون علم. الله تعالى خلق الناس وما يحتاجون إليه لعبادته وإعمار الأرض لهذا لا بد من الاجتهاد في القرآن لمواكبة التطور.ومن الأدلة ما يلي:

الكهف 7 “إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا” والبقرة 60  “كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعتوا في الأرض مفسدين” والبقرة 57″كلوا من طيبات ما رزقناكم” ولقمان 20 “ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة” والجاثية 13 والبقرة 172 والأعراف 32 والنحل 18 13 والبقرة 168 “يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا” الله تعالى يحب المسلم الذي يعمل بجد في الحلال لإطعام وإكرام نفسه ومن يجب عليه الإنفاق عنهم ولكن في إطار الالتزام بأحكام القرآن وحدوده، فكل نفس بشرية ملك لله تعالى دون سواه ومن ادعى ملكية البشر والحكم مشرك بالله و من أيده مشرك أيضا ويجب على كل إنسان إكرام نفسه والعناية بها والعمل الحلال لتحقيق ذلك، فالله تعالى حكيم وخبير وعليم بهذا التطور، لهذا جعل القرآن ملائما لكل زمان ومكان وترك لعلماء الإسلام الاتفاق حول استنباط الأحكام الشرعية المسايرة للتطور البشري.

– ثانيا : إن من المبررات الشرعية التي تفرض استمرار الاجتهاد لمسايرة وملاءمة التطور البشري أن حكمة وفلسفة ومقاصد القرآن تفرض ذلك، الله تعالى رحمان رحيم وغني وقوي لأنه يملك الكون وكل ما فيه، ومن ذلك الماء والهواء ومصادر الطعام التي هي شروط الحياة البشرية. والله تعالى يريد الخير لعباده المؤمنين، لهذا لم يشدد عليهم التكليف والأدلة منها: البقرة 185 “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” والبقرة 207 “والله رؤوف بالعباد” والنحل 7 “إن ربكم لرؤوف رحيم” والبقرة 243 “إن الله لذو فضل على الناس” و الإسراء 70 “ولقد كرمنا بني آدم” والبقرة 286 “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت” والأنعام 152 “لا نكلف نفسا إلا وسعها “. والاجتهاد في القرآن لا يجوز في النصوص والآيات المتعلقة بالغيب كالآيات المتشابهة لأن علمها وتأويلها لله وحده طبقا لما جاء في آل عمران 7 “ولا يعلم تأويله إلا الله” وكذلك الآيات المتعلقة بالأخبار التي ذكرها الله تعالى في قصص الرسل والأنبياء والأمم والشعوب السابقة ومايهم الجنة وجهنم والآخرة والحساب. فالعلماء يستخلصون منها العبر والأحكام و الفوائد والدروس. والاجتهاد لا يتعرض لآيات القرآن التي حدد فيها الله تعالى الوعد والوعيد والإنذار والتبشير لإقناع الإنسان والعقل البشري ولتمكينه من الأدلة الشرعية والعقلية التي تساعده على الإيمان والإهتداء إلى الحق.  ولا يمكن الإجتهاد في النص القرآني إلا إذا كانت ألفاظه أو حكمه المسكوت عنه أي المفهوم منه يسمح بذلك، لا يجوز شرعا أن يكون الاجتهاد مخالفا لحدود الله تعالى في القرآن، كيفما كانت التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولا يجوز الإجتهاد إلا لعلماء الإسلام الأكفاء المتقين الصادقين الصالحين المؤهلين لأن القرآن شرع الله الواجب التطبيق والإتباع في كل زمان ومكان إلى ما شاء الله تعالى، بل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يجب أن تكون مطابقة لحدود القرآن وأحكامه الشرعية الآمرة والثابتة.

– ثالثا : إجتهاد علماء الإسلام الصحيح المشروع هو ما تصادق عليه الأغلبية المطلقة منهم أي من سائر علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام، وهو ملزم لكافة المسلمين في دار الإسلام. والأدلة على ذلك ما يلي : النحل 43 “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” فتدبروا إخواني الأساتذة الباحثين والقراء والدعاة المحترمين هذه الآية. إنها تفرض على الذين لا يفهمون القرآن بأن يسألوا عن ذلك أهل الذكر وهم الفقهاء والعلماء المسلمون المتقون والصالحون الذين لهم علم بعلوم القرآن والدراسات الإسلامية، وهذه الآية أيضا تفرض على أهل الذكر بأن يجيبوا الذين لا يعلمون ولا يفهمون القرآن في كل عصر من العصور لهذا فمهمة اجتهاد علماء الإسلام وهم أهل الذكر واجبة شرعا وباستمرار  إلى ما شاء الله تعالى، وطبقا لهذه الآية الواردة في النحل 43 المذكورة والأنفال 122 والحجر 9 فإن الله تعالى فرض على علماء الإسلام الإجتهاد المستمر في كل عصر لشرح القرآن وتفسيره وتبليغه للناس واستنباط الأحكام والقوانين الملائمة لظروف العصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتقنية. ولكن لا يتبع المسلمون إلا ما اتفق عليه كافة علماء الإسلام في بلاد الإسلام بالإجماع أو الأغلبية المطلقة. وذلك بأمر الله في النحل 43 والحجر 9 ويونس 89 “فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون” والجاتية 18 “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون” والحكم الغير المنطوق في الآيتين هو وجوب اتباع سبيل الذين يعلمون و في النساء 115 ” ويتبع غيرسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ” فهذه الآيات دليل على وجوب اتباع اجتهاد أغلبية كافة علماء الإسلام في بلاد الإسلام والدليل تفويض الله تعالى لعلماء الإسلام هذه المهمة راجع التوبة 122 والنحل 43.

وخصص الله العذاب لعلماء الإسلام إذا حرفوا القرآن أو امتنعوا عن تفسيره وتبليغه للناس، فلا بد من توفر مستوى مهم من العلم لفهمه واستنباط أحكامه والإجتهاد فيه. الله تعالى فرض على علماء الإسلام المتقين الصادقين في كل بلاد الإسلام شرح القرآن و تفسيره للناس ولكن إذا لم يحصل إجماعهم على اجتهاد معين فإن ما تقرره أغلبيتهم المطلقة ملزم لكافة المسلمين في دار الإسلام، والدليل النساء 59 “يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فأن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر” و النساء 83 “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” والنحل 43 “فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” هذا تفويض من الله تعالى لعلماء الإسلام لشرح وتفسير القرآن للناس، وإذا اختلفوا فيجب إتباع ما اتفقت عليه الأغلبية المطلقة، وقد أمر الله تعالى بوحدة المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى، وحرم الله تعالى الإختلاف والتفرقة حول القرآن، ومن الأدلة على ذلك المائدة 3 “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” والحجرات 10 “إنما المؤمنون إخوة” والتوبة 71 “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر …” والتوبة 11 “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين” هذه الأحكام الشرعية أكدت أن كافة المسلمين في دار الإسلام إخوة في الدين ولا يجوز شرعا أن يختلفوا حول كلمة الله وهي القرآن.

وبعد أن بينت الأدلة الشرعية والعقلية التي تفرض باستمرار اجتهاد علماء الإسلام لاستنباط الأحكام الشرعية من آيات القرآن لملائمة قضايا العصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتطور الحضاري الإنساني في إطار الإلتزام بثوابت القرآن، فإني أوضح ذلك بأمثلة تطبيقية لكي تعم الفائدة ويتأكد فعلا لكم وجوب استمرار اجتهاد علماء الإسلام.

ب: الأمثلة التطبيقية من القرآن الدالة على وجوب استمرار اجتهاد علماء الإسلام.

هذه الأمثلة التطبيقية من القرآن سوف أبين فيها بعض الآيات التي تتضمن أحكاما شرعية قد نزلت لأسباب محددة حسب ألفاظها في وقت نزولها وهي آمرة وتابتة وملزمة، ولكن الاجتهاد الذي فرضه الله تعالى واستعمال العقل العالم السليم يؤذي إلى استنباط أحكام شرعية منها وجعلها ملائمة لظروف العصر المتطورة إجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وعلميا وتقنيا، وإذا بينت هذه الأمثلة التطبيقية من بعض آيات القرآن فإن ذلك تأكيد شرعي وعقلي لفريضة اجتهاد علماء الإسلام في بلاد الإسلام، ولكن سوف أقتصر على بعض الأمثلة التطبيقية من القرآن لأن البحث في كل الآيات يحتاج إلى مجهود كبير ووقت طويل.

المثال الأول : هذا المثال مهم ويبين أهمية وضرورة وواجب اجتهاد علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام لاستنباط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والتي تكون ملائمة لظروف العصر وتطوراته الاقتصادية والعلمية والتقنية، فسورة الأنفال 60 فيها حكم شرعي آمر وصالح لكل زمان ومكان وهو “وأعدوا  لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم ….” الله تعالى أمر المسلمين بإعداد القوة لمواجهة الأعداء والدفاع عن النفس وعن دين الله تعالى الإسلام ولكنه أمر بإعداد القوة من الخيل لأنه عندما نزلت الآية قبل أكثر من أربعة عشر قرنا كان الناس يتحاربون بالخيل، ولم تكن وسائل أخرى نظرا لظروف العصر والتطور الذي كانت عليه المجتمعات البشرية في تلك الفترة، فهل يستطيع المسلمون مواجهة الكفار في عصرنا بالخيل وهم يتوفرون على قوة اقتصادية هائلة وأسلحة فتاكة منها الدبابات والطائرات النفاثة والسفن الحربية والصواريخ والأسلحة الكيماوية والنووية التي تقتل الملاين من البشر في بضع ساعات فقط. فالحكم الشرعي في الأنفال 60 رغم أنه نص على الخيل كقوة للدفاع عن دار الإسلام والمسلمين ودين الله الحق الإسلام فإنه يأمر المسلمين بإعداد القوة سواء بالخيل أو غيرها حسب ظروف العصر ووضعية الكفار. ولا يمكن إعداد القوة التي أمر الله بها للدفاع عن النفس إلا بقيام الأمة الإسلامية والسلطة الإسلامية الخاضعة لها بتنظيم القوانين والمؤسسات وتنظيم العمل الجدي المنتج في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية الرغبات المشروعة للمسلمين وتحقيق التقدم العسكري وإنتاج مختلف أنواع الأسلحة الموازية والمناسبة لأسلحة الكفار. ومن الآيات التي أكدت وجوب العمل الحلال تنفيذا لأمر الله الوارد في الأنفال 60 نجد الجمعة 10 “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله” هذا أمر من الله تعالى بعدم التوقف عن العمل الحلال المنتج إلا وقت أداء الصلوات المفروضة لهذا فالذين يدعون إلى المرابطة طيلة اليوم في المسجد والمبالغة في صلاة النوافل والذين يدعون إلى حبس المرأة في البيت فقد ارتكبوا جرائم في حق الأمة الإسلامية وأغرقوها في بحر التخلف والإنهيار. ومن الأدلة المؤكدة لوجوب العمل الحلال هود 61 ” هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” الله كلف الناس بالتعاون لإعمار الأرض والتشييد والبناء والتقدم، وكذلك التوبة 104″وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” و يس 35 والقصص 77 والليل 10 -11 والإسراء 12. ولا يمكن إعمار  الأرض وإعداد قوة الدفاع عن المسلمين ودينهم الإسلام وبلادهم وثرواتهم وأعراضهم ودمائهم إلا بإعداد القوة المناسبة للعصر، وهذا حكم شرعي مستنبط من الأنفال 60 جعل الآية ملائمة لظروف كل عصر.

لهذا فالذين أغلقوا باب اجتهاد علماء الإسلام قد ارتكبوا جريمة كبرى دمرت الفكر الإسلامي وحطمت قوة الأمة الإسلامية. والذين تشبثوا بتفسير الصحابة والتابعين وبالسنة النبوية دون استخدام العقل والمقارنة مع آيات القرآن ودون إدراك أن اجتهاد السلف منه ما كان صالحا لوقته فقط وأن فيه تحريف وكذب على الرسول عليه صلاة الله وسلامه من طرف أعداء الإسلام ومنهم اليهود والنصارى هم أيضا جمدوا الفكر الإسلامي مما أدى إلى فشل المسلمين في تطبيق أمر الله تعالى في الأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…” وغيرها لإعداد القوة الضرورية للدفاع عن الإسلام ودار الإسلام والمسلمين في مواجهة عدوان الكفار، وبذلك تفوق عليهم الأعداء في كل المجالات وأخضعوهم للإستعمار المباشر وغير المباشر ونهبوا ثرواتهم وعطلوا تطبيق القرآن في دار الإسلام وردوا كثيرا من المسلمين عن دينهم الحق الإسلام. فلا يمكن التشبث الحرفي بكل ما كان يعمل السلف في العصور السابقة، بل يجب استعمال العقل لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة لظروف العصر وتطوراته وقضاياه ولمسايرة التطور والظروف والإستفاذة من محاسن الحضارة الإنسانية وتجنب مساوئها ولكن في إطار الإلتزام بثوابت القرآن وأحكامه وقواعده الآمرة.

إن من عوامل تخلف المسلمين تفريقهم إلى مذاهب ومدارس وفرق مختلفة ومتصارعة ابتعدت عن أصل الشرع الإسلامي ومنهج الله تعالى وهو القرآن وفسرت بعض آياته بشكل منحرف ومخالف لإرادة الله تعالى لتأييد أطروحاتهم وخرافاتهم الكاذبة لخدمة مصالحهم ومصالح الكفار الاقتصادية والسياسية.

وكمثال المائدة 38 “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله”. طبقا لهذه الآية أمر الله تعالى وفرض على الأمة الإسلامية والسلطة الإسلامية قطع يد من تبثت في حقه جريمة السرقة. ولكن الآية لم تبين أنواع السرقة وأشكالها وكيفية القيام بها وإثباتها. ولهذا فعلماء الإسلام هم الذين يجب عليهم تحديد ذلك من خلال الاجتهاد.

فالتطورات التكنولوجية والعلمية المعاصرة والتزايد السكاني المهول في العالم وانتشار البطالة والتفاوت الكبير بين مداخيل الأغنياء وثرواتهم وبين الفقراء المحرومين أدى إلى تطور أساليب ووسائل السرقة ومضمونها بشكل يصعب إثباته ويفلت المجرمون من العقاب الذي خصصه الله تعالى لهم.

    شاهدت عدة مرات في الفضائيات أثناء تقديم نشرات الأخبار كيف أن عصابات المجرمين تضطلع على أرقام الحسابات والبطاقات السرية البنكية وتستخرج الأموال باسم صاحبها. وهناك من يستعمل وسائل كيماوية لتخذير عقول أصحاب المال لسرقة أموالهم. بل ويستعملون نفس المخدرات لاتلاف بصر من يريدون سرقة أمواله وهناك من يزور فاتورات تنفيذ ميزانية الدولة أو الجماعات والمؤسسات والشركات لسرقة أموالها. وهناك السرقة بتزوير العملة النقدية والورقية. وتعتبر الرشوة هي أيضا سرقة وكذلك أكل أموال الناس بالباطل كالغبن والتدليس والربح المتفاحش الغير المشروع والتهرب الضريبي والمضاربة.

كل هذه الحالات لم تنص عليها الآية 38 من سورة المائدة التي حرمت السرقة وخصصت لها العقاب. لهذا يجب فتح باب الإجتهاد لملاءمة الأحكام الشرعية وتطبيقها على كل التغيرات والتطورات التي حصلت في المجتمعات وحسب ظروف العصر. فالمبدأ والحكم الشرعي الأساسي في المائدة 38 حدد العقاب على السرقة ولكنه ترك لعلماء الإسلام والأمة الإسلامية تحديد كل أساليب ووسائل وموضوع السرقة حسب تطور وظروف العصر.

    وكمثال الآيات التي أمر فيها الله تعالى بإقامة العدل بين الناس ومنها الحجرات 9 “وأقسطوا إن الله يحب المقسطين” والنساء 58 “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” والنحل 90 “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” والمائدة 8 “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” والأعراف 29 “قل أمر ربي بالقسط” والنساء 135 “فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا” والمائدة 42 “إن الله يحب المقسطين”.

 هذه الآيات التي ذكرتها في هذا المثال فيها أحكام شرعية آمرة نصت على مبدأ عام ثابت وملزم في كل مكان وزمان وهو أن على الأمة الإسلامية والسلطة الإسلامية واجب إقامة العدل بين الناس في دار الإسلام. ولكن كيفية تطبيق هذا الأمر الرباني المتعلق بإقامة العدل تتغير كما وكيفا حسب ظروف  المجتمع الإسلامي وتطوره من حيث عدد السكان ومستواهم الثقافي وتطور وسائل الإعلام والإتصال ووسائل الإجرام وأشكاله وتطور التكنولوجيا والعلوم. فالمجتمع المكون من ألف نسمة توضع له مؤسسات وأجهزة لإقامة العدل بين الناس مخالفة لمجتمع إسلامي مكون من ملايين الأفراد. فالظروف الإجتماعية والإقتصادية والتكنولوجية المتوفرة لها تأثير على إختيار وسائل إقامة العدل.

    ولكن العلماء المسلمين فرض عليهم الله تعالى الإجتهاد الدائم لاستنباط الأحكام الشرعية التفصيلية الملائمة لظروف العصر من الأحكام الشرعية العامة في القرآن كتحديد كيفية انتخاب القضاة وأولي الأمر والحكام الذين يمارسون السلطة الإسلامية ويسيرون مرافق العدل تحت مراقبة الأمة الإسلامية. كما أن العدل في دار الإسلام يجب أن يتحقق بما أنزل الله تعالى وهو القرآن. أما في البلاد الغير الإسلامية فإن العدل فيها يتم بناءا على قوانين وضعية اختارها الشعب حسب هواه ورغباته وشهواته ولو كانت مخالفة لشرع الله تعالى. والدليل الحديد 25 “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” والبقرة 213 “كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس” والمائدة 48 “فاحكم بينهم بما أنزل الله” والنساء 105 “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما”.

    فالديمقراطية في الإسلام هي الحكم بما أنزل الله أي القرآن أما الديمقراطية في بلاد الكفار فهي الحكم بما صادق عليه الشعب ولو بأغلبيته حسب هواه. وحقوق وحريات المسلم ليست من اختياره بل حددها الله تعالى في القرآن. ولا تجوز مخالفتها نهائيا. أما حقوق وحريات الكفار فتحددها أغلبية الشعب حسب رغبات الناس وهواهم ولو كانت مخالفة للقرآن. لهذا فالعدل الإسلامي له قواعده وأحكامه في القرآن.

وكمثال الشورى 38 “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم” هذه الآية حكم دستوري أساسي إسلامي أعطى الحكم في الدولة الإسلامية للمسلمين يقررون في شأنه مباشرة أو بواسطة مؤسسات منتخبة كمجلس الأمة. ولكن طبقا لهذا الحكم الدستوري الهام والأساسي الذي فرضه الله تعالى في الشورى 38 فإن المؤمنين الصالحين هم الذين لهم الحق في الشورى في دار الإسلام دون غيرهم. ولكن علماء الإسلام والأمة الإسلامية يحددون القوانين الوضعية المطبقة لما جاء في الشورى 38 حسب ظروف العصر والتطورات البشرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية. فالمجتمع المكون من مئة فرد تطبق فيه الشورى مباشرة باجتماعهم في مكان واحد وتقرير ما يهم الشأن العام مباشرة. ولكن المجتمع المكون من مئات الملايين من البشر لايمكن اجتماعهم في مكان واحد وتنظيم الشورى بينهم مباشرة.فلا بد من انتخاب المسلمين لمن يمثلهم في مجلس الشورى وهو الذي له سلطة اتخاذ القوانين المطبقة للقرآن وانتخاب ومرقبة أولي الأمر والحكام من بين المسلمين المتقين الصادقين والمؤهلين. طبعا قد يقرر علماء الإسلام انتخاب أولي الأمر مباشرة من طرف الشعب المسلم. فالظروف الزمانية والمكانية والتطورات الإجتماعية والتكنولوجية والعلمية تفرض على علماء الإسلام البحث عن كيفية تطبيق النص القرآني ومنه الأحكام الدستورية الإسلامية. و لكن طبقا للنظام الدستوري الإسلامي في القرآن لا يجوز شرعا لأحد أن يستبد بالحكم و السلطة الإسلامية لأن الحكم للأمة الإسلامية بإسناد من القرآن و لا تكون للحكام شرعية إلا إذا انتخبتهم الأمة الإسلامية أو الشعب المسلم و يمارسون مهامهم تحت مراقبة المسلمين.

ونظرا لشساعة دار الإسلام فإن علماء الإسلام يقررون القوانين الدستورية المطبقة للشورى 38 بحيث تكون هناك دولة اتحادية اسلامية تضم كافة الدول الإسلامية البسيطة في دار الإسلام يوحدها القرآن والقوانين الوضعية التي تتخذها الأمة الإسلامية في الدولة الإسلامية الإتحادية وتطبق بعدل وبصرامة في كل بلاد الإسلام.

و كمثال النور 4 “واللذين يرمون المحصنات تم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون”. فإثبات الزنى بأربعة شهداء كان ممكنا في المجتمع الإسلامي عند نزول الآية حيث كان عدد السكان قليلا جدا وكان الوازع الديني قويا حيث كان المسلمون ملتزمين بأحكام القرآن ومنها أداء الشهادة بحق وعدم كتمانها. أما في عصرنا فقد حصلت تطورات هائلة في كل المجالات العلمية والتقنية والبشرية حيث انهار الوازع الديني وتزايد البشر حيث يسيرون في الشوارع مختلطين لا يكترث أحد بالآخرين مثلهم كمثل النمل لا يتميز عن بعضه. فالناس لا يهتمون بأداء الشهادة. لهذا فمن الصعب إثبات شهادة أربعة شهداء على الزنى. وقد يثبت شخص واحد علاقة الزنى بواسطة التصوير الفعلي والتسجيل وقد يضبط الشرطي امرأة ورجلا في حالة تلبس بالزنى في مكان بعيد عن أنظار الناس، وفي هذه الحالة يتبث الزنى أمام المحكمة بدون توفر أربعة شهداء.

     لهذا لا يجوز شرعا جلد من بلغ عن الزنى ولم يكن لديه أربعة شهداء إذا تبث هذا الزنى فعلا بالتلبس واعتراف أحد الزانين وبالبراهين والأدلة.

و لا يمكن في هذه الحالات وغيرها ترك الزانيين بدون عقاب لعدم توفر أربعة شهداء. خاصة وأن التقدم الطبي والعلمي توصل إلى كيفية إثبات آثار وعلامات الزنى لدى الزانيين حتى ولو أنكرا هذه الممارسة.

    لهذا فإن علماء الإسلام يجب أن تكون لهم ثقافة واسعة وملائمة للتطورات العلمية و التقنية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي يعرفها العصر الذي يعيشون فيه وذلك لإيجاد واستنباط الأحكام من القرآن. لهذا يجب على الأمة الإسلامية وعلماء الإسلام البحث عن قوانين متطورة لحل قضايا المجتمع ولو كانت أجنبية بشرط عدم مخالفتها لنصوص القرآن.

وكمثال النساء 101 “وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا” لاحظت عند أدائي لفريضة الحج أن الحجاج يقصرون من الصلاة في منى وعرفات ومزدلفة ولاحظت أثناء سفري في بلاد أخرى أن المسافر يقتصر على التيمم ويقصر من الصلاة. ولهذا ادعوا علماء الإسلام إلى البحث في هذه المسألة لبيان الحقيقة الشرعية. وأساهم برأيي كما يلي : إن التيمم لا يجوز نهائيا إلا إذا فقد الماء سواء خلال السفر أو غيره، لهذا يجب على المسافر الوضوء للصلاة إذا كان الماء متوفرا. ويجب على الحجاج أداء الصلاة بكاملها دون نقصان في منى وعرفات ومزدلفة. والدليل الشرعي هو أن الله تعالى رخص بالقصر في الصلاة إذا توفر شرطان فقط هما السفر وحصول الخوف من فتنة الكفار على النفس والمال والعرض.

    وقد استند بعض المسلمين إلى ما فعل الرسول في سفره بين مكة والمدينة أثناء أداء فريضة الحج. وقد جاء في الحديث …( هي رخصة من الله لكم )فهذه الرخصة حدد الله تعالى شروط صحتها وهي السفر والخوف من فتنة الكفار. فقد كانت هذه الشروط متوفرة في عهد الرسول لما بين سنة القصر من الصلاة في السفر لأنه كان خائفا من كفار قريش الذسن كانوا يتربصون به وبالمسلمين ولكن في عصرنا ايس هناك فتنة للكفار تهدد المسلمين في مكة والحجاج يشهدون على ذلك أثناء أداء فريضة الحج. لهذا على المسافر المسلم أداء الصلوات بكاملها دون قصر وذلك امتثالا لحكمة الله تعالى. فيجب الإلتزام بالنص القرآني في النساء 101. وليس بالسنة النبوية التي طبقت النساء 101 حسب الظروف التي كانت قائمة آنذاك حيث الخوف أثناء السفر من فتنة الكفار. وهذه الظروف قد تغيرت ولم تعد هناك فتنة للكفار في مكة. فكيف تلزمون أيها السلفيون الناس باتباع ما فعله السلف في حين إنه صالح لظروف خاصة. واتباعه الآن يعتبر جريمة لأنه مخالف للقرآن وظروفه غير متوفرة في عصرنا.لا يمكن اتباع ما كان يفعل السلف إلا إذا كان مطابقا للقرآن. فعلينا استعمال العقل ومقارنة أفعال وأقوال السلف مع القرآن فإن كانت موافقة له نلتزم بها وفي هذه الحالة فإننا نلتزم في الواقع والحقيقة بالقرآن الذي طبقه السلف.

وكمثال النساء 3 “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث وربع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”.على علماء الإسلام استنباط الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية العامة حسب ظروف العصر وتطوراته. رخص الله تعالى تعدد الزوجات. ولكن هذه الرخصة ليست مطلقة بل قيدها شرط العدل بين الزوجات في الإنفاق والمعاشرة الجنسية. وقد جاء في النساء 129 “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما”. لهذا فإن العدل بين الزوجات شرط أساسي للتعدد وبدون حصوله يفسخ عقد الزواج بالنسبة للزوجة المتضررة من التعدد بشرط أن ترفع أمرها للمحكمة وأن تثبت الضرر. وفي هذه الحالة تفسخ المحكمة عقد الزواج وتقرر للمتضررة متعة وتعويضا عن الضرر. لهذا فإن سنة الرسول الذي تزوج أكثر من أربع زوجات وكان له الحق في عدم العدل بينهن في المعاشرة الجنسية لا يجوز شرعا الأخذ بها واتباعها من طرف باقي المسلمين لأن فعلها تطبيق لسورة الأحزاب 51-52.

     كما أن سنة الرسول قد فرضت النقاب على زوجاته تطبيقا للقرآن الأحزاب 53 “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب” وهو حجاب كامل وتام يمنع رؤية الوجه وباقي الجسم. لا يجوز شرعا تطبيقها على غير زوجات الرسول لأن الله تعالى فرض عليهن عدم استعمال النقاب ولكن إخفاء زينة الجسم كلها باستثناء الوجه. للمزيد انظر اليحث الذي نشرته في موقعي المذكور بالإنترنت “الأحكام الشرعية التي تفرض على المؤمنة إخفاء كل زينتها باستثناء الوجه و الكفين “.

    الله تعالى يعلم أن زوجات الرسول قليلات وسوف يمتن. لهذا شرع لهن حكم النقاب الذي يخفي الوجه لضمان أمن الرسول صلى الله عليه و سلم ولحكمة يعلمها الله تعالى أما باقي المسلمات فلم يسمح لهن الله بارتداء النقاب في الأماكن العمومية لضمان أمن الناس و حياتهم. وقد أمر الله نساء النبي بالبقاء في بيوتهن بينما باقي المسلمات أمرهن بالمساهمة في إعمار الأرض والعمل الصالح والمشاركة في إعداد القوة التي أمر بها الله تعالى في الأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”.فلماذا تأمرون الناس باتباع حرفي لما فعله الرسول والسلف دون استعمال العقل ودون تدبر آيات القرآن.

وكمثال البقرة 196 “ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله” فطبقا لحكم الله تعالى في هذه الآية لا يجوز شرعا حلق شعر الرأس بالنسبة للذي يؤدي فريضة الحج في مكة إلا بعد أن ينحر الهدي وبعد أن يتوصل به من يستحقه من الفقراء المسلمين دون سواهم. يمكن تطبيق هذا الحكم الشرعي إذا كان عدد الحجاج قليلا وعدد أماكن الذبح ووسائله متوفرة حيث لا يحصل الإزدحام والفوضى والإضطرابات والنزاعات وفد كان ذلك ممكنا ومتوفرا عند نزول الآية.ولكن في عصرنا بلغ عدد الحجاج أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. ونظرا لقلة أماكن الذبح وقلة عدد الأغنام وغيرها اجتهد علماء الإسلام لاستنباط أحكام تلائم ظروف العصر. فأجازوا إمكانية دفع ثمن الهدي لمؤسسات شرعية مرخص لها بتنفيذ العملية. ولكن هذه المؤسسات والسلطة تتحمل مسئولية أمام الله تعالى للذبح وتبليغ الهدي للفقراء المسلمين دون سواهم من الكفار ولو كانوا في أشد الحاجة إليها. فإن لم يجدوهم فمن واجبهم إنفاق المداخيل في سبيل الدعوة الإسلامية.من هنا يتجلى حقا الواجب المفروض على علماء الإسلام لاستنباط الأحكام من نصوص القرآن لتكون ملائمة  لظروف العصر وتطوره.

    وكمثال عن واجب اجتهاد علماء الإسلام لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة للعصر هناك الأنفال 66 “فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين”فقد فرضت محاربة المسلم لمقاتلين من العدو. فعند نزول الأنفال 66 كان المسلمون متقاربين مع الكفار في نوع الأسلحة وعددها وعدد المقاتلين. ولكن في عصرنا لا يستطيع المقاتل المسلم مواجهة ولو جندي واحد له دبابة مدمرة أو طائرة نفاثة أو سفينة حربية والصواريخ بمختلف أنواعها والأسلحة الكيماوية والنووية التي تقتل الملايين في ساعات قليلة. فلا يمكن للمقاتل المسلم الذي لا يتوفر إلا على بندقيته مواجهة هذه الأسلحة ومنها الطائرات المقاتلة بدون طيار.بل عليه أن لا يلقي بنفسه إلى التهلكة. لقوله تعالى في البقرة 195 ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “.لهذا فإن بعض نصوص القرآن العامة تحتاج إلى تحديد ظروف تطبيقها. وعلى علماء الإسلام البحث عن كيفية ملاءمتها للواقع في إطار إلزامية النص القرآني.

وكمثال الأنعام 141 “كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده”. الزكاة يجب أن تعطى لمن يستحقها من فقراء المسلمين يوم حصاد الزرع وجني ثمار الفواكه وغيرها.وهذا أمر الله تعالى. ولكن تغيرت الظروف الإجتماعية والإقتصادية في عصرنا. فقد لا يجد الملزم بأداة الزكاة المسلمين المحتاجين إليها يوم الحصاد لأسباب متعددة. لهذا يمكنه الإحتفاظ بها في مكان آمن حتى يجد من يستحقها وإن لم يجد فعليه إنفاقها في سبيل الدعوة الإسلامية.

     وكمثال آيات القرآن التي أمرت بأداء الزكاة والصدقة منها البقرة 43 “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” والإسراء 26-27 ” وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا” والنحل 90 “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” والذاريات 19 ” و في أموالهم حق للسائل والمحروم ” والنور 22 “ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله” والتوبة 60 “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله” هذه الآيات التي ذكرتها تفرض على المسلم أداء الزكاة للمسلمين المحتاجين وكذلك الصدقات حسب استطاعته إذا كان له فائض عن حاجيات من يجب عليه الإنفاق عليهم.

    ولكن هناك بعض الناس الذين يبخلون ولا يؤدون الزكاة الواجبة عليهم ولا يؤدون الصدقة بسبب ضعف إيمانهمم أو بخلهم وحبهم للمال. فالذي لا يؤدي الزكاة عمدا رغم قدرته على ذلك يعتبر كافرا وإن كان يصلي والدليل التوبة 11 ” فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ” كما أن الله تعالى حرم البخل والدليل آل عمران 180 “ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم. سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير” والنساء 37 “الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل و يكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكارين عذابا مهينا”.لهذا هناك واجب شرعي مفروض على الأمة الإسلامية وعلماء الإسلام والسلطة الإسلامية لفرض تطبيق أحكام القرآن و منه هذه الآيات حول الزكاة والصدقة.

    فكيف يعيش الغني في التبذير والبذخ والرفاهية المفرطة بينما والداه وأقاربه والفقراء من المسلمين يموتون جوعا. إن الأمة الإسلامية والسلطة يجب أن تطلع على ممتلكات الأغنياء وأن تفرض عليهم أداء الواجبات الشرعية وأن تقتطع منهم واجب الزكاة والصدقة لفائدة صناديق ومؤسسات تتكلف بتوزيعها على من يستحقها بعدل وبصرامة. وإن بقي هناك فائض منها يصرف في سبيل الدعوة الإسلامية. ويمكن للدولة الإسلامية أن تخصص ضرائب على الأغنياء لصالح فقراء المسلمين الذين لا يستطيعون العمل لأسباب خارجة عن إرادتهم كالفقراء المسنين واليتامى والأرامل والمطلقات وذوي العاهات الدائمة والمعاقين.

وعلماء الإسلام يجب أن يستنبطوا الأحكام الشرعية الملائمة لظروف العصر الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والتكنولوجية فلا يمكن أن ينمو المجتمع ويزدهر ويستقر فيه الأمن إلا إذا طبق فيه القرآن ومنه هذه الآيات المتعلقة بالزكاة والصدقة فهي رحمة لمن أعطاها ولمن توصل بها.

    وأختم هذه الأمثلة التطبيقية بما يلي: البقرة 188 “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون”. والنساء 29 “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” فالحكم الشرعي التابث في الآيتين هو تحريم أكل مال الغير بدون حق وظلما وقد خصص الله تعالى لمن يعتدي على أموال الناس ظلما ويستولي عليها بأية وسيلة ومن يقتل النفس بغير حق عذاب جهنم إذا لم يتب ولم يرد الأموال إلى أصحابها. و الدليل النساء 30 “ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا.”

    الله تعالى شدد العقاب في الدنيا والآخرة لكل من يمس عرض ودماء وأموال الناس للمحافظة على حقوقهم وحرياتهم المشروعة وضمان استقرار المجتمع. لهذا على علماء الإسلام استنباط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن العامة وتطبيقها حسب تطورات العصر وظروفه في شكل قوانين وضعية تحدد أشكال الأموال ووسائل إثبات الإعتداء والإستيلاء عليها مثل الرشوة بمختلف أشكالها ووسائل وطرق دفعها للمرتشين مثل تزوير فاتورات تنفيذ الميزانيات الخاصة بالدولة والمؤسسات والشركات والغبن والنصب والإحتيال والتدليس والسرقة بمختلف أساليبها وأشكالها. و كل أموال الدولة والشركات والمؤسسات أموال للناس لا يجوز شرعا أكلها بالباطل لأن الناس المكونين لها هم الذين وضعوا هذه الأموال. لهذا يطبق عليها حكم الآيات التالية البقرة 188 والنساء 29 و 30.

    كما أن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق في البقرة 188 لا يكون فقط بالقتل المباشر بل أدى التطور العلمي والتكنولوجي إلى إيجاد طرق القتل بصفة غير مباشرة كالقتل البطيئ بالمؤثرات الصحية والسموم والمخدرات السامة سواء في الأكل أو على شكل رائحة قاتلة أو القتل الغير المباشر بمنع العلاج والدواء المفيد.

    لهذا يجب على الأمة الإسلامية وعلماء الإسلام وضع القوانين المطابقة لنصوص القرآن التي تلائم العصر وتطوره وتحدد كل الجرائم وتخصص لها العقاب لحماية حقوق وحريات المسلمين و ضمان أمن و استقرار و تطور المجتمع الإسلامي. و هذه الأمثلة التطبيقية من القرآن التي بينتها أكدت أن بعض نصوص القرآن فيها أحكام عامة صالحة لكل زمان ومكان. وعلى علماء الإسلام والأمة الإسلامية الإجتهاد لإيجاد القوانين الوضعية المطبقة لها بشكل يتلاءم مع تطور العصر وظروفه. فهذه الأمثلة تفند وتكذب ادعاء أعداء الإسلام الذين أغلقوا باب الإجتهاد وفرقوا المسلمين إلى أحزاب ومذاهب ومدارس وشيع متعارضة ومختلفة. وهذا التفرق والإختلاف حرمه الله تعالى والأدلة على ذلك سبق أن بينتها فلا داعي لتكرارها.

8- الحكم المنطوق والحكم المفهوم الغير المنطوق:

آيات القرآن ونصوصه تضم الأحكام الشرعية التي يجب استنباطها وفهمها وتدبرها والإلتزام بها قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت والأدلة كثيرة منها محمد 24 “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” و سورة ص 29 ” كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ” والزمر 55 ” و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون” ولكن الأحكام الشرعية لا تكون ملزمة رغم وجودها في مصحف القرآن إذا نسختها أحكام شرعية نازلة بعدها وقد يتغير مدى إلزام الحكم الشرعي من الإطلاق إلى التقييد أو العكس ومن التعميم إلى التخصيص أو العكس. حسب ما أراده الله للعباد. ولكن هناك فئة من الأحكام الشرعية الهامة الملزمة للناس في آيات القرآن ولكنها غير منطوقة في النص القرآني. بل تفهم منه بالاستنتاج العقلي . فالحكم المنطوق أو الظاهر في الآية تدل عليه ألفاظها ومعانيها الظاهرة سواء كانت حقيقية أو مجازية، مثلا النساء 11 ” للذكر مثل حظ الأنثيين” فالحكم حدد بوضوح قسمة الإرث بين الأبناء والبنات ولا يحتمل تأويلا آخر. وكمثال أيضا العنكبوت 57 ” كل نفس ذائقة الموت” وفي البقرة 275 ” وأحل الله البيع وحرم الربا” وفي الإسراء 31 “ولا تقربوا الزنى”. فهذه أحكام منطوقة واضحة ألفاظها تدل صراحة على معانيها الظاهرة المتجلية للقارئ. فالحكم الشرعي المنطوق حكم ظاهر لأن ألفاظ الآية ومعانيها دالة عليه. أما الحكم الغير المنطوق والمفهوم من الآية وألفاظها ومعانيها الحقيقية أو المجازية فإنه غير ظاهر ومسكوت عنه. ولكنه يستنتج ويستنبط من نص الآية باستعمال العقل وما يتوفر فيه من علوم قرآنية وثقافة عربية وإتقان لقواعدها وقواعد وعلوم فهم القرآن.

إن الأحكام الشرعية الغير المنطوقة والمفهومة من آيات القرآن ملزمة للناس كباقي أحكام القرآن كلها، فالحكم الشرعي الغير المنطوق مخفي ومسكوت عنه ولا تدل عليه ألفاظ الآية، بل يستنتج من معنى الآية وذلك بالفهم والملاحظة والمقارنة والاستنتاج. ولهذه الأحكام نفس الدلالة الشرعية والقوة الإلزامية مثل باقي الأحكام المنطوقة. ولا يعذر أحد بجهلها .لهذا فإن معرفتها ومعرفة طرق استنباطها تكتسي أهمية شرعية بالغة. واستخراج هذه الأحكام الغير المنطوقة في الآيات وتحديدها واجب شرعي على علماء الإسلام في كل بلاد الإسلام. فعليهم الاتفاق حول ما يستنبطونه منها بالإجماع أو الأغلبية المطلقة، لأن عامة الناس لا يستطيعون معرفة الأحكام الشرعية المنطوقة في الآيات فبالأحرى فهم الأحكام الشرعية الغير المنطوقة التي يحتاج استنباطها إلى مستوى مهم من الذكاء والمعرفة والعلم. فالحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في نص الآية يفهم ويستنبط بالعقل والعلم. ولهذا أعطي أمثلة تطبيقية من القرآن عن الأحكام الشرعية المفهومة من الآية والغير المنطوقة فيها لأبين للناس طريقة وكيفية استنباطها. وهذه الأمثلة على سبيل المثال وليست على سبيل الحصر لأن تحديد كل الأحكام الشرعية الغير المنطوقة في القرآن يحتاج إلى مجهود كبير ووقت كاف.

وكمثال النور 3 ” الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين” فالحكم الشرعي المفهوم من الآية والغير المنطوق فيها والمستنتج منها هو وجوب فسخ عقد الزواج شرعا بين المسلم والمسلمة إذا زنى أحدهما أو هما معا، حيث تنتهي العلاقة الزوجية بينهما وجوبا. والدليل عبارة “وحرم ذلك على المؤمنين ” الواردة في النور 3. وتؤيد ذلك أيضا التوبة 23-24 ” قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ” والمجادلة 22 ” لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ” والممتحنة 1 ” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق ” و التحريم 6 ” يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا ” هذه الآيات التي ذكرتها تؤكد أحكامها أن الزاني و الزانية قد ارتكبا الكبائر من السيئات التي تخوله جهنم. فهي تفسخ عقد الزواج بين المسلمين وجوبا.

وكمثال الإسراء 23 ” فلا تقل لهما أف” حسب هذا الحكم المنطوق في الآية حرم الله تعالى قول كلمة (أف) لأحد الوالدين، ولكن الحكم المفهوم والغير المنطوق في الآية أن الله عز وجل حرم أيضا شتم وقذف أحد الوالدين أو ضربه أو إهماله وعدم الإحسان الواجب إليه شرعا.

وكمثال البقرة 187 ” أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم” فالحكم الشرعي المسكوت عنه والغير المنطوق والمفهوم من هذه الآية هو أن الله تعالى حرم الرفث إلى الزوجة أي حرم إتيان الزوج لزوجته يوم الصيام وهو من قبل الفجر إلى ما بعد المغرب. و طبعا لا يجوز الرفث إلا للزوجة بناء على عقد زواج مشروع وبشرط إتيانها في قبلها فقط أي مكان التناسل. وكل من أتى زوجته يوم الصيام وجب عليه وعليها صيام شهرين متتابعين.

وكمثال البقرة 230 ” فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره” ليس معنى ذلك أن المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بزوج آخر تحل لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا حيث يمكنه ممارسة الجنس معها وردها إلى عصمته بعقد زواج آخر، بل الحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في الإسراء 23 يحرم على المطلق ثلاثا إرجاع زوجته بعد العدة إلا بعد أن تتزوج زوجا آخر و بشرط أن يطلقها بمحض إرادته وتنتهي مدة العدة وبشرط أن تقبل المطلقة عقد زواجها من جديد بالزوج الذي طلقها ثلاثا.

وكمثال سورة القدر “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر”. الحكم الشرعي في هذه الآية يفرض إقامة الصلاة ليلة القدر من المغرب إلى طلوع الفجر. وبما أن ليلة القدر غير معروفة بل هي في عشر ليالي الأخيرة من شهر رمضان. لهذا فالحكم الشرعي المفهوم من هذه الآية والغير المنطوق في نصها أن إتيان الزوجة في كل ليلة من الليالي العشر الأخيرة من رمضان لا يجوز شرعا لأنه يشغل عن الصلاة المستمرة التي أمر بها الله تعالى طيلة ليلة القدر من المغرب إلى الفجر. طبعا يجوز التوقف للأكل والشرب فقط والدليل ” البقرة 187″ ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد ” لأن الله عظمها و أقسم بها و الليالي العشر الأخيرة من رمضان اعتكاف للصلاة وجوبا لأن فيها أنزل القرآن و الدليل الفجر 1-2 ” و الفجر و ليال عشر ” والدخان 3-6 “إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم” وهذا دليل على أهمية قيام اليالي العشر الأخيرة من رمضان.

وكمثال الأنعام 54 ” و إذا جاءك الذين  يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم”. الحكم المنطوق في هذا الآية هو وجوب قول السلام عليكم للمؤمنين الصالحين المتقين. والحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق والمستنتج من هذه الآية هو أنه يجب شرعا عدم قول السلام عليكم للكفار ويحرم مد اليد إليهم أو مصافحتهم بالوجه. فلا يجوز السلام إلا على المؤمنين المتقين. والدليل طه 47 “والسلام على من اتبع الهدى” و الفتح 29 “محمد رسول الله والذين آمنوا أشداء على الكفار رحماء بينهم”و الفرقان 52 ” فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً ” والأنفال 60 ” و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ” ونفس الحكم الغير المنطوق نستنتجه من النور27 ” ياأيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرلكم لعلكم تذكرون”. في هذه الآية أمر الله تعالى بقول السلام عليكم عند دخول بيت الغير بعد إذنه. وبما أن الله تعالى قد حرم قول السلام عليكم أو مصافحة غير المسلمين. فإن الحكم الشرعي غير المنطوق في هذه الآية أنه لا يجوز شرعا دخول بيت غير المسلم ولو بموافقته. وكمثال التوبة 11″ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين”. الحكم الشرعي الغير المنطوق في هذه الآية أن الكفار إذا لم يتوبوا توبة صادقة نصوحا ولم يصلوا ولم يؤذوا الزكاة الواجبة والمستحقة عليهم ليسوا إخوانا للمسلمين أي ليسوا مسلمين وإن شهدوا أن لا إله إلا الله. فالإسلام من شروطه الأساسية أداء الصلاة وإيتاء الزكاة المستحقة الواجبة. والأدلة منها الحج 78 ” فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله هو مولاكم” و المدثر 42-43 ” ما سلككم في سقرقالوا لم نك من المصلين” و مريم 59 “فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ” و التوبة 5 ” فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم” لهذا فالحكم الشرعي المفهوم و المسكوت عنه والغير المنطوق في التوبة 11هو أن الذي لا يصلي ولا يؤذي الزكاة الواجبة والمستحقة عليه ليس مسلما نهائيا ولا حق له في الإقامة وسط المجتمع الإسلامي في دار الإسلام إلا إذا تاب فعلا والدليل الأنفال 39 “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” و التوبة 33 ” و هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون “.

وكمثال المائدة 6 ” يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ” قال بعض المفسرين بأن عبارة ” أو لامستم النساء” تعني جماع الزوجة. وبذلك ارتكبوا خطأ فادحا حيث ادعوا بغير حق أن لمس الرجل للمرأة بيده أو وجهه لا يوجب الوضوء للصلاة إذا لم يحصل الجماع. والصحيح أن لمس الزوج لزوجته أو محارمه يوجب الوضوء قبل الصلاة. والدليل منصوص عليه في المائدة 6. حيث هناك حكم شرعي مفهوم منها. فالمائدة 6 نصت على الاغتسال من الجنابة في حالة إتيان الزوجة وجوبا لأداء الصلاة. أما لمس النساء فلو كان يعني الجماع لنصت المائدة 6 على وجوب الاغتسال منه إذا حصل. ولكن نصت فقط على وجوب الوضوء أو التيمم إذا فقد الماء في حالة وقوع لمس النساء. لهذا فإن لمس النساء لا يعني الجماع وإنه ينقض الوضوء ولا يجوز شرعا أداء الصلاة بدون تجديد الوضوء بعد لمس النساء أو مصافحتهن. وطبعا لا يجوز شرعا لمس المرأة الأجنبية أو مصافحتها واعني غير الزوجة والمحارم. وهذا الحكم الشرعي في المائدة 6 يؤكد عدم صحة الحديث المنسوب كذبا لعائشة زوجة الرسول عليه صلاة الله وسلامه والذي قيل فيه أن الرسول كان يقبلها ويصلي بدون تجديد الوضوء.لهذا فالحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في المائدة 6 هو أن لمس النساء لا يعني الجماع وأنه يوجب الوضوء كشرط لأداء الصلاة أو التيمم في حالة عدم وجود الماء.

وكمثال النحل 98 ” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم” فالحكم المفهوم من هذه الآية لا يعني أن من قرأ القرآن يجب أن يختم بالاستعادة بالله من الشيطان الرجيم ولكن يعني هذا الحكم أن من أراد قراءة القرآن عليه أن يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع في هذه القراءة بالحفظ أو في المصحف. ونفس التفسير يطلق على المائدة 6 ” يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إلى الكعبين” فالحكم الشرعي المفهوم أن من أراد أن يصلي يجب عليه الوضوء أو التيمم في حالة فقدان الماء. ولا يعني الحكم كما جاء في المنطوق أن الإنسان يؤذي الصلاة ثم يتوضأ بعد أدائها والقيام لها.

وكمثال الفتح 4 “وكان الله عليما حكيما” والفتح 11 “بل كان الله بما تعملون خبيرا” رغم أن فعل كان في الآيتين وغيرهما يدل على فعل قد وقع في الماضي فإنه دليل على الاستمرارية، والحكم الشرعي الغير المنطوق هو أن علم الله تعالى مطلق وشامل وأبدي. فهو عليم وحكيم في الماضي والحاضر والمستقبل ولا يحيط  أحد بعلمه إلا بما شاء سبحانه وتعالى. والله يعلم ويراقب ما يفكر فيه كل إنسان وما يقول وما يفعل باستمرار وأينما كان.

وكمثال الجمعة 9 “يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون” الحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في هذه الآية أن الله تعالى لم يحرم فقط البيع عندما يؤذن المؤذن للصلاة يوم الجمعة بل حرم الله تعالى كل عمل أو إجراء يمنع الناس من أداء صلاة الظهر يوم الجمعة خلال الفترة الفاصلة بين الآذان ونهاية الصلاة. أما بعد صلاة الظهر يوم الجمعة فقد فرض الله تعالى متابعة العمل والكسب والنفع الحلال. و الدليل الجمعة 10″فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون”. لا يجوز أن يكون يوم الجمعة يوم عطلة للمسلمين ولكن يجب توقيف العمل ما بين الآذان والصلاة والانتهاء منها. وكل عمل يشغل المسلمين عن أداء صلاة الظهر يوم الجمعة محرم شرعا عندما يؤذن المؤذن إلى حين الانتهاء من صلاة الظهر. فكل عمل سواء تجارة أو صناعة أو فلاحة أو خدمات أو غيرها يدخل في هذا التحريم باستثناء الأعمال التي يؤدي توقيفها إلى حدوث خطر أو  فساد أو مضرة لا يمكن تجنبها إلا بهذا العمل المشروع كاشتغال طبيب بعملية جراحية لانقاد حياة شخص في خطر أو إطفاء نار مشتعلة أو قيادة طائرة في الجو بل حتى المسلمة التي تشتغل بطبخ الطعام عندما يؤذن المؤذن لصلاة الظهر يوم الجمعة يجب عليها توقيف عملية الطبخ إلى أن تؤذي الصلاة. وإذا لم تفعل ذلك فلا يجوز أكل طعامها. وطبقا للحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في الجمعة 9 فإن الله تعالى لم يأمر بالذهاب إلى المسجد وجوبا، فليس في الآية أي دليل على ذلك ” إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع” بل يجب على المسلم قراءة القرآن وأداء صلاة الظهر يوم الجمعة بعد توقيف العمل وذلك في المسجد و أي مكان طاهر حسب الظروف هذا أمر  بأداء الصلاة و قراءة القرآن  ولكن لم يفرض على الناس الصلاة في المسجد.فأرض الله الطيبة كلها مسجد لأداء الصلاة.

وطبقا لهذا الحكم الشرعي الغير المنطوق في الجمعة 9 لا تجوز صلاة الجمعة في المسجد إذا كان فيه شرك بالله لقوله تعالى في الكهف 110 ” فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا” و الجن 18 “و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا” وإذا كان الإمام غير متوفر على شروط الإمامة أو صدر منه ما يبطلها كالركون للظالمين و الدعاء لهم أو الكذب على الله تعالى في خطبة الجمعة أو الشرك به. وفي هذه الأحوال لا يجوز له شرعا أن يصلي بالناس و الدليل التوبة 113 “ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم” و هود 113 “و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار”.

وكمثال الممتحنة 12 “و لا يعصينك في معروف” فقد فرض الحكم الشرعي المنطوق في هذه الآية طاعة الرسول عليه صلاة الله وسلامه في المعروف. ولكن الحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في الممتحنة 12 أن من الواجب شرعا عصيان الرسول وعدم طاعته في غير المعروف وهو المنكر لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهو الله عز وجل، ونفس التعليل يقال عن واجب عصيان الحكام وأولي الأمر إذا خالفوا حدود القرآن والقوانين المطبقة له والتي اتخذتها الأمة الإسلامية وعلماء الإسلام.

وكمثال ذكرت سورة النساء 23 المحرمات من الزواج. ولكن هناك حكم شرعي مفهوم وغير منطوق في النساء 23 وهو أنه يحرم من الفروع ما يحرم من أصولها. فمثلا حرم الله الزواج بالأم وبما أن الأم فرع للجدة فهي أيضا يحرم منها الزواج سواء الجدة من الأم أو من الأب ولو كانت بالرضاعة. لأن ما يحرم من النسب يحرم من الرضاعة. حرم الله زواج الرجل ببنته وتبعا لذلك حرم عليه أيضا الزواج بزوجة الابن وتبعا لذلك تحرم أيضا أخواتها وأمها وجدتها. وغير ذلك من الحالات، فالمهم أن الحكم الشرعي الغير المنطوق في النساء 23 هو انه يحرم من الفروع ما يحرم من الأصول.

وهناك حكم شرعي آخر مفهوم من النساء 23 وغير منطوق فيها وهو أن هذه المحرمات من الزواج محرمة أيضا من الممارسة الجنسية لأن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تستند إلى عقد زواج مشروع  يربطهما تعتبر زنى حرمه الله تعالى على المسلمين، والدليل الإسراء 31 “ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا” والنور 3 ” و حرم ذلك على المؤمنين “. وعقد الزواج لا يجوز شرعا بين المحارم وفروعهم وأصولهم، لهذا فإن تحريم العلاقة الجنسية بين المحارم حكم مفهوم وغير منطوق في النساء23.

وكمثال الأحقاف 20 “ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها. فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون”. و الرعد 18 ” للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب و مأواهم جهنم و بئس المهاد” فالحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في هذه الآية هو أن الله تعالى يحب أن يعمل الإنسان بجد في الحلال لمتاع الدنيا وإشباع رغباته المشروعة لأنه في هذه الحالة سوف يكرم نفسه ومن يجب عليه الإنفاق عليهم كزوجته وأبنائه ووالديه كما أنه يكرم المؤمنين الفقراء والمحتاجين بالزكاة والصدقة، والعمل الحلال واجب لأن الله استخلفنا لعبادته وإعمار الأرض. و لكنه يعاقب كل من خالف حدود القرآن وأحكامه الشرعية سواء كان غنيا أو فقيرا. لهذا يجب العمل لمتاع الدنيا في إطار التقوى وعبادة الله تعالى والالتزام بحدود وأحكام القرآن باستمرار حتى الموت وبصدق وحسن نية إخلاصا لله عز وجل، ومن الأدلة المؤيدة لهذا الحكم الغير المنطوق في الأحقاف 20 ما يلي: يونس 7-8 “إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم الناربما كانوا يكسبون”. في هذه الآية حكم شرعي غير منطوق مؤيد لنظيره في الأحقاف 20 وهو أن الذي يرجو لقاء الله تعالى ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها إذا التزم بحدود القرآن وأحكامه حتى الموت فإن مأواه الجنة وتؤيدها أيضا سورة يونس 69-70 “قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون” الله تعالى أكد أنه يعاقب الناس مقابل فسقهم وكفرهم ومخالفتهم لشرعه وليس بسبب اهتمامهم واشتغالهم بمتاع الدنيا الحلال.

وكمثال طه 82 “وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى” فالحكم المفهوم والغير المنطوق في هذه الآية أن الله عز وجل لا يغفر لمن لم يجسد توبته في الإيمان الصادق والعمل الصالح والتقوى أي الالتزام بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا، سرا وعلانية حتى الموت.

وكمثال سبأ 50 ” قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب” في هذه الآية حكم شرعي مفهوم وغير منطوق، وهو أساسي لكل مسلم ومسلمة. إنه شهادة وإقرار من الله تعالى لا يجوز لأحد مخالفته أبدا وهو أن ما ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام من دون القرآن ليس وحيا من الله تعالى، فالوحي الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد بن عبد الله هو القرآن والدليل فاطر 31 “والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق” وكل ما نطق به الرسول أو فعله من غير القرآن فهو سنته الخاصة به قد تكون مطابقة لأحكام وحدود القرآن وقد تكون مخالفة لها في حالة الخطأ، وتأثير هوى النفس. لهذا فكل ما نسب للسنة النبوية لا يلزم المسلمين إلا إذا تأكدوا أنه مطابق للقرآن. خاصة وأن أعداء الإسلام وضعوا أحاديث زورا ونسبوها كذبا للسنة النبوية. وأحيلكم على البحث الذي نشرته بموقعي حول موضوع: علاقة السنة بالقرآن، أذكركم بالأدلة ومنها الأعراف 3 والزمر 55 – 13 والجاثية 18 و يونس 15 و الحاقة 43-47. فلا تتأثروا أيها المسلمون بالخرافات التي نسبت كذبا للسنة النبوية ولا تتبعوا إلا السنة المطابقة للقرآن لأنه المصدر الأصلي والأسمى لشريعة الإسلام. وكل من كذب على الله والرسول مصيره عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، وكل من اتبع الكاذبين على الله والرسول له نفس المصير.

وكمثال التحريم 6 “يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” الحكم المنطوق في هذه الآية أن كل زوج مسلم فرض عليه الله تعالى وجوبا وبصراحة أن يكون مسلما متقيا ملتزما بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت وهذا الفرض الواجب صراحة أمر فيه الله تعالى الزوج المسلم بأن يتدخل وجوبا لجعل زوجته وأبنائه مثله متقين وملتزمين بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت، هذا الحكم تأكيد لحكمة الله تعالى في الكون والحياة الاجتماعية للناس. فالأسرة هي خلية المجتمع وإذا صلحت الأسر صلح المجتمع وبالتالي صلح الحكام وأولوا الأمر لأنهم ينبتقون عن المجتمع الذي ينتخبهم لممارسة السلطة الإسلامية من بين المؤمنين الصالحين الصادقين والأكفاء. لهذا فالحكم الشرعي المفهوم والغير المنطوق في التحريم مهم جدا وهو أن المسلم لا يجوز له شرعا الزواج بغير المسلمة أبدا لأنه معرض لعذاب الله تعالى إذا لم تكن زوجته مسلمة متقية صالحة ملتزمة بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية.

9- الحكم المجمل والحكم المبين والمفسر له : سوف أعرف الحكم المجمل والحكم المفسر والمبين له ثم أعطي أمثلة تطبيقية من القرآن عنهما.

أ – تعريف الحكم المجمل والحكم المبين له:

الحكم المجمل حكم عام لم تتحدد دلالته ولم يستنبط حكمه الشرعي من الآية دون الاستعانة بآيات أخرى. بل قد يتوهم المفسر ويعطي له تفسيرا سطحيا غير ملائم لمعناه الحقيقي فيخطئ بذلك في تفسير القرآن فيحرم الحلال ويحلل الحرام. وهذه عملية خطيرة جزاؤها عذاب الله في الدنيا والآخرة. لهذا فإن الحكم المجمل الذي لم يتضح من خلال ألفاظ الآية ولم يفهم بوضوح يجب عرضه على كل آيات القرآن الأخرى والبحث عن العلاقة التي تربطه بها ومنها علاقة التأكيد والتوضيح والتفسير والبيان، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، والدليل الفرقان 33 “ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا” فهذا دليل من الله تعالى وشهادة منه سبحانه عز وجل على أن القرآن يفسر بعضه البعض، والقيامة 16-19 “لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قراناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه” أكد الله عز وجل بأنه تكلف بتفسير القرآن بالقرآن نفسه. فالآيات التي لها أحكام مجملة أي غير مفصلة وغير واضحة بآيات أخرى فيها أحكام مفصلة وموضحة لها ومفسرة لمضمونها. لهذا لا يجوز شرعا استنباط حكم شرعي من آية معينة إلا بعد عرضها على كل آيات القرآن الأخرى ومقارنتها بها لمعرفة هل هناك علاقة نسخ أو إلغاء كلي أو علاقة تعديل جزئي كتقييد المطلق أو تخصيص العام أو تفسير وتوضيح وتفصيل الحكم الشرعي المجمل. فالحكم الشرعي في آيات القرآن قد يكون واضح الدلالة والمعنى والتأويل والتفسير بدون شك لأن ألفاظ الآية مفهومة وواضحة ومحددة ولا تحتمل معنى آخر باستثناء الآيات المتشابهة فتأويلها لا يعلمه إلا الله تعالى في الدنيا، والحكم الشرعي فيها يكون مستنبطا وواضحا مثلا البقرة 222 “فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم الله” والإسراء 33 ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” والبقرة 187 “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم” أي إتيان الزوجات. وسبأ 28 “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا” والنحل 90 “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” وآل عمران 97 “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا” فالأحكام الشرعية في هذه الآيات ليست مجملة ولا تحتاج إلى أحكام شرعية أخرى تفسرها وتوضحها وتبينها لأنها واضحة المعنى، أما الحكم الشرعي المجمل في الآية فلا يفهم ولا يستنبط إلا بعد مقارنته بالأحكام الأخرى التي تفسره وتوضحه وتبينه بحكمة من الله تعالى الذي جعل التربية الإسلامية والتشريع الإسلامي متدرجين حسب تطور المجتمع الإسلامي.

وكمثال عن المجمل الذي تفسره أحكام أخرى البقرة 228 “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء” المفسر لهذه الآية وحدها يصدر حكما بأن كل مطلقة يجب أن تكون عدتها ثلاثة أشهر، ولكن في القرآن آيات أخرى لها علاقة بهذه الآية من حيث التشريع القرآني، فلا بد من مراعاتها شرعا ومنها مثلا المطلقة قبل الدخول بها من طرف زوجها لا عدة لها والدليل الأحزاب 49 ” يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا “. والحامل المطلقة عدتها ليست ثلاثة أشهر كما جاء في الحكم المجمل في البقرة 228 ولكن إلى أن تضع حملها و الدليل الطلاق 4 ” و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن “. فالحكم الشرعي المجمل لا يحدد مدلوله الشرعي الصحيح إلا بمقارنته مع أحكام أخرى تبينه وتحدده، وفي القرآن كثير من الأحكام الشرعية المجملة. لهذا يجب تفسير الآية في سياقها ومحورها العام الذي وردت فيه وموضوعها التشريعي المرتبطة به.

وكمثال الفتح 10 “يد الله فوق أيديهم” فليس معنى الآية أن الله تعالى له يد وانه وضعها فوق أيدي المسلمين لأننا لا نعلم كيف هي ذات الله العظيمة ولأنه مستوي على العرش فوق السماء السابعة. ولا يمكن أن يراه أحد في الدنيا كما نص على ذلك القرآن. لهذا فهذا الحكم المجمل تفسره آيات أخرى منها الأنعام 61 “وهو القاهر فوق عباده” أي أن الله أقوى من كل مخلوق من مخلوقاته ومنها فاطر 44 “وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا” و المائدة 17 “قل فمن يملك من اللّه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومنفي الأرض جميعاً” لهذا فتكرار الأحكام الشرعية في الآيات لم يصدر عبثا و ليس فيه عيب أبدا لأنه حكمة الله تعالى والمراد منه اقتناع العقل البشري وتذكير الناس بها والتأكيد على أهميتها وفائدتها وتفسيرها لبعضها البعض، لهذا فالقرآن يفسر بعضه بعضا. وكمثال البقرة 183 ” كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم “و البقرة 185 “فمن شهد منكم الشهر فليصمه” لو اقتصرنا على حكم هذه الآية فقط لقلنا أن المسلم ملزم بصيام شهر رمضان كله بأيامه ولياليه. ولكن هذا الحكم المجمل مفسر ومبين بالبقرة 187 ” وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل” فتبين من ذلك وجوب صوم شهر رمضان من الفجر إلى المغرب من كل يوم فقط وليس طيلة أيامه ولياليه. وبعد هذا التعريف الذي بينت فيه الحكم الشرعي المجمل والحكم الشرعي المبين والمفسر له سوف أعطي أمثلة كثيرة تطبيقية من القرآن عن الأحكام المجملة والأحكام المبنية لها لتسهيل فهمها على الناس من جهة ولأساهم في الدعوة الإسلامية وذلك ببيان وتوضيح بعض الأحكام الشرعية التي استنبطتها من آيات القرآن حسب استطاعتي والتي أتمنى أن تكون فيها فائدة للناس، وهذه الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر واعتذر عن التطويل .

ب – أمثلة تطبيقية من القرآن عن الحكم المجمل والحكم المبين له

الحكم الشرعي المجمل عام وغير واضح ومبهم، ولكن هناك في القرآن أحكام أخرى لها علاقة تشريعية به حيث توضحه وتفسره وتؤكده، قد تكون هذه الأحكام في نفس سياق ومحور الحكم المجمل وموضوعه. وقد تكون في محاور أخرى مرتبطة بمحوره.

وسأبحث في القرآن عن أمثلة تطبيقية أتعرض فيها لأحكام شرعية مجملة وأحدد الأحكام الشرعية الأخرى التفصيلية المبينة والمفسرة والمؤكدة لها. 

المثال الأول: من شروط الإيمان الصادق التقوى والالتزام بأحكام القرآن.

هناك حكم شرعي مجمل في البقرة 177 “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب” و النساء 150 ” إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ” والبقرة 285 ” آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” وسورة الحجرات 14 “قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”. هناك فرق بين الإسلام والإيمان، الإسلام يظهر بالقول والعمل إقرارا واعترافا كالنطق بالشهادتين. والإيمان هو التصديق الفعلي بالقلب والاقتناع المطلق الذي ليس فيه شك ولا ريب بوجود الله تعالى وبصدق القرآن والكتب السابقة التي أنزلها الله تعالى وبالرسل كافة والملائكة وبالبعث والحساب في الآخرة عن أعمال الدنيا. فلا إيمان بدون الإيمان بالقرآن والعمل بأحكامه. والدليل محمد2 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم” والذي أنزل على محمد عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه هو القرآن. ومن لم يؤمن به ولم يعمل بحدوده كافر ولو آمن بالكتب السماوية الأخرى، ولهذا فالنصارى واليهود وغيرهم من سائر البشر إذا لم يؤمنوا بالقرآن فإنهم كفار ولو آمنوا بالرسل السابقين وبالتوراة  والإنجيل، بل يجب عليهم العمل بحدود القرآن لأنه نسخ ما سبقه من كتب سماوية، وأحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالانترنيت حول موضوع “بطلان التوراة والانجيل بالقرآن وأحكام الكفر والايمان” وأذكركم بالمائدة 15 و19 و آل عمران 19 و 85 والأعراف 158-157.ولهذا سوف أتعرض للأحكام الشرعية التي فسرت وبينت الحكم المجمل في البقرة 177 والحجرات 14 المذكورتين أعلاه. ومنها ما يلي: الزخرف 68 – 70 “يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون” ويونس 62 – 64 “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم” والنساء 122 ” وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا” والبقرة 277. هذه الآيات تفسر وتبين وتكمل الحكم المجمل السابق، فلا فائدة من الايمان ولو كان صادقا إذا لم يتجسد فعلا في التقوى والعمل الصالح أي طاعة الله تعالى والالتزام بأحكام وحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. والدليل العصر والتين والبقرة 38 – 39 ” قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْفِيهَاخَالِدُونَ”والأعراف 35 “يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” وآل عمران 102 “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” والمائدة 65 “ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم”.

لا يقبل الله تعالى الايمان ولو كان صادقا إلا إذا تجسد فعلا في طاعة الله والإسلام له وإتباع حدود القرآن في الدنيا قبل الشعور بقرب أجل الموت، والدليل الأنعام 158 “يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا”فلا ينفع الإيمان في الآخرة عندما يتأكد المبعوث من صدق القرآن الذي شاهد تأويله حقا. يمكن أن يكون الإنسان مسلما بدون إيمان صادق، فلا بد من الإيمان الصادق بالقلب دون نفاق ولا بد من تجسيده بالعمل الصالح والتقوى. إن الإيمان الصادق يدخل الجنة وينال صاحبه رحمة الله ورضاه في الدنيا والآخرة إذا تجسد فعلا بالعمل الصالح والتقوى. والدليل عشرات الآيات المتكررة في القرآن والمؤكدة لبعضها البعض، وأعطي أمثلة منها : هود 23 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون” والرعد 18 “للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم و بئس المهاد” فلا ينال رحمة الله وسعادة الجنة ورؤية ذات الله العظيمة والكلام معه في الآخرة إلا من جسد إيمانه الصادق بطاعة الله والالتزام بحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. ومن الأحكام المبينة لهذا المجمل الكهف 107 – 108 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا” والمائدة 57 “واتقوا الله إن كنتم مؤمنين” فمن شروط الإيمان الصادق التقوى وهي طاعة الله تعالى وإتباع القرآن. لهذا لا يكفي الادعاء والتظاهر بالإيمان والإسلام بدون تقوى وعمل صالح والتزام بالقرآن وطاعة الله تعالى ولو شهد الإنسان بقول لا إله إلا الله وقال إني مسلم. والدليل السجدة 19 ” أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون ” و الزحرف 72 والأحقاف 13-14 والتغابن 9 والطلاق 11. فالعمل الصالح واتباع القرآن هو الذي خول المؤمنين الجنة. والدليل أيضا طه 74 – 76 “إنه من يات ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي، ومن ياته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى” والحشر 18 والحديد 28. فلا تغتر أيها المسلم المؤمن الصالح بمظاهر البشر كمن له لحية طويلة أو قصيرة ومن يحمل السجادة وآلة التسبيح ومن له أموال كثيرة ويتظاهر بالصدفة والإيمان، بل راقب العمل والتصرف والمعاملة الظاهرة و السرية ولتتأكد هل الذي يدعي الإيمان فعلا يعمل العمل الصالح ومن المتقين أم لا. فالإيمان بدون عمل صالح وتقوى لا قيمة له ولا يعفي من جهنم والعمل الصالح بدون إيمان لا يخول الجنة . فالإيمان يجب أن يكون صادقا ومجسدا فعلا في العمل الصالح والتقوى دون نفاق لقوله تعالى في التوبة 119 “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” والأنبياء 94. لهذا فالعمل الصالح والتقوى سرا وعلانية هو الذي يميز المؤمنين الحقيقيين من المنافقين لقوله تعالى في الصف 2-3 “لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” والنساء 145-146 “إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، إلا الذين تابوا …” والتوبة 68 “وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب عظيم” لهذا لا بد أن يتجسد الإيمان في العمل والقول المطابقين لأحكام وحدود القرآن والذين يتحكم فيهما العقل القرآني الذي يكبح جماح النفس الأمارة بالسوء ويفرض على الجوارح الالتزام بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. والدليل التوبة 71 “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم”. فالمؤمن الحقيقي هو المتقي والمستقيم أي الملتزم بحدود القرآن قولا و عملا. والدليل التكوير 27 -28 “إن هو إلا ذكر للعلمين لمن شاء منكم أن يستقيم” ولهذا أمر الله تعالى رسوله وباقي المسلمين بالاستقامة في عدة آيات منها هود 112 “فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير”.

المثال الثاني : لا تجوز العلاقة الزوجية في الإسلام إلا بين مسلم ومسلمة:

الحكم المجمل في النور 3 “الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينحكها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين” وتبينه عدة أحكام أخرى وتفسره وتؤكده منها الإسراء 32 “ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة، وساء سبيلا” فالزنى هو كل علاقة جنسية بين شخصين أنثى وذكر  لا يربط بينهما عقد زواج شرعي. وقد حرمه الله تعالى على المؤمن والمؤمنة. وإذا زنى أحد الزوجين المسلمين فسخ عقد الزواج وجوبا، والدليل النور 26 “الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات”. ومن الأدلة على وجوب شرط الإسلام بين الزوجين البقرة 221 “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم” والكتابية هي أيضا كافرة ومشركة لأنها تعبد المسيح بن مريم وتعتبره ربا. والبقرة 221 “ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم” والتحريم 6 “يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا” الزوج المسلم ملزم شرعا و بأمر من الله تعالى بأن يجعل نفسه متقيا وأن يفرض على زوجته وأبنائه التقوى للنجاة من جهنم والفوز بالجنة. فهذا الحكم دليل على تحريم زواج المسلم بغير المسلمة. وهناك الممتحنة 10 “يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار, لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن” فلا يجوز للمسلمة الزواج بغير المسلم ولا يجوز للمسلم الزواج بغير المسلمة.

المثال الثالث: قضاء الله وقدره مطلق عادل:

الحكم المجمل في فاطر 2 “ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم” والأحكام المبينة له والمفسرة والمؤكدة له كثيرة منها ما يلي: الله تعالى استخلف الناس في الدنيا بصفة مؤقتة وعلى سبيل الابتلاء والامتحان. وهو الذي يجازي كل إنسان حسب نتيجة هذا الامتحان الذي مادته القرآن. وذلك بالعذاب أو الرحمة أي بجهنم أو الجنة. والله تعالى عادل عدلا مطلقا لا يظلم مثقال ذرة أبدا، فقضاء الله عز وجل وقدره وتصرفه في الكون وما فيه مطلق وعادل لا يمنعه أحد أبدا، والأدلة من الأحكام الشرعية المفسرة والمبينة لهذا الحكم المجمل هي التالية: الأحزاب 17 “قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا” والفتح 11 “يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من اللّه شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً ” ويس 23 “إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون” وفاطر 15 – 16 “يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد” و العنكبوت 62 “الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له” و الأنعام 18 “وهو القاهر فوق عباده” و المائدة 17 “قل فمن يملك من الله شيئاإن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً”.

الله تعالى له قضاء وقدر مطلق ويتصرف بعدل في الكون، ولا يمنعه أحد في تصرفه أبدا لقوله تعالى في فاطر 44 “وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ” والحاقة 44 – 47 “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين” وهذا تهديد للرسول عليه الصلاة والسلام لكي لا يحرف القرآن. وهو دليل على قدرة الله تبارك وتعالى على فعل ما يريد في الكون رغم استوائه على العرش فوق السماء السابعة، ومن الأدلة عن هذه الأحكام المبينة والمفسرة للحكم المجمل في فاطر 2 المذكورة أعلاه يس 82 “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” وغافر 68 “فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” فقضاء الله وقدره مطلق لا يمنعه أحد أبدا ولكنه عادل عدلا مطلقا أيضا لقوله في النساء 40 “إن الله لا يظلم مثقال ذرة” و يونس 44 “إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون” والدليل أننا نلاحظ بأن المؤمنين الصالحين الصادقين يعيشون في سعادة ورحمة بينما الكفار  والظالمون المعرضون عن القرآن يعيشون في شقاء وعذاب واظطراب ولو كان بعضهم يتوفر على الأموال فإنها عذاب لهم. لقوله تعالى في التوبة 55 “فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون”.

المثال الرابع: طاعة الزوجة لزوجها في المعروف واجبة شرعا

هناك حكم مجمل في النساء 34″ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا” فالحكم الشرعي الغير  المنطوق في هذه الآية أن الزوجة إذا لم تطع زوجها في المعروف أي فيما لا يخالف شرع الله تعالى فقد جعل الله له عليها سبيلا أي من حقه إلزامها بالطاعة ولو عن طريق القضاء. و من الأحكام المبينة لهذا الحكم المجمل في النساء 34 ما جاء في الممتحنة 12 “ولا يعصينك في معروف” بمعنى أن من حقهن عصيانه في غير المعروف وهو المنكر لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهو الله تعالى. والنساء 59 “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” فطاعة الله مطلقة واجبة على الرسول وأولي الأمر وعلى الزوج في تدبير أمور أسرته، لهذا لا تجب طاعة الزوجة لزوجها إلا في ما يرضي الله ويطابق القرآن، والتحريم 6 “يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا” هذا أمر الله تعالى حيث فرض على الزوج المسلم إلزام نفسه وزوجته وأبنائه بالتقوى للإفلات من عذاب الله تعالى ومن جهنم ولا يتحقق ذلك إلا إذا فرض الزوج المسلم على زوجته وأبنائه الالتزام بشرع الله ورباهم تربية إسلامية. وهذا الواجب الشرعي الذي فرضه الله تعالى على الزوج المسلم هو المبرر الشرعي الذي يفرض على الزوجة والأبناء طاعة الزوج المسلم في المعروف. وحكمة الله تعالى من ذلك ضمان استقرار الأسرة المسلمة وتربيتها تربية إسلامية سليمة وبالتالي إذا صلحت الأسر صلح المجتمع وإذا صلح المجتمع صلح أولوا الأمر والحكام وعم الأمن والاستقرار والازدهار. فليس هناك أي مساس بحقوق وحرية الزوجة المسلمة لأن الله تعالى حكيم وهو الذي حدد هذا التشريع مراعيا مصلحة الأسرة والأبناء وقدرات كل من الزوجين الذكر والأنثى و تكوينهما الفزيولوجي والصحي المختلف نتيجة لخلق الله تعالى. والدليل الأعراف 189 ” هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ” و البقرة 187 “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن” فرغم مسؤولية الزوج المسلم عن تدبير أمور أسرته وتربيتها تربية إسلامية فإن التعاون والتضامن والتكافل بين الزوج المسلم وزوجته المسلمة واجب وهو من عوامل استمرار العلاقة الزوجية واستقرارها ونجاحها.

المثال الخامس : كل إنسان مسؤول أمام الله عن أعماله.

الحكم المجمل في سبأ 25 “قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون” و الأحكام المبينة والمفسرة والمؤكدة له كثيرة منها الطور 21 “كل امرئ بما كسب رهين” و  الجاثية 28-29 “اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون” الله تعالى يراقب أعمال كل إنسان باستمرار وفي آن واحد ويسمع أقواله ويعلم ما يفكر فيه و يعتقده في قلبه وعقله و الإسراء 13-14 ” وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”. ويوم القيامة بعد البعث يحاسب الله كل إنسان ويجازيه حسب ما في كتاب أعماله والملائكة بأمر من الله تعالى يكتبون أعمال الإنسان في كتاب أعماله الذي يحاسبه الله به، والدليل الانفطار 10 -12 ” وإنا عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون” والزخرف 80 ” أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ورسلنا لديهم يكتبون” التوبة  78 “ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب” والمجادلة 7. وكل إنسان يحاسب عن أعماله ولا يكون مسؤولا عن أعمال غيره يوم القيامة. والدليل الانفطار 19 “يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله” و لقمان 33 ” يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور” و المائدة 105 “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم”. ولا شفاعة لأحد في الدنيا ولا في الآخرة أبدا سواء للرسل أو غيرهم باستثناء شفاعة الملائكة إذا شهدوا بالحق وأذن لهم الله تعالى لأنهم يعلمون ما في كتب أعمال الناس التي سجلوها.

المثال السادس: مهمة الشيطان في الدنيا ابتلاء من الله تعالى .

هناك حكم مجمل في البقرة 168 – 169 “يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون”. عندما خلق الله آدم وحواء في الجنة أصيب الشيطان بالحسد والتكبر واعترض على هذا الخلق أمام الله تعالى، ورغم ذلك لم يعاقبه الله عز وجل ولكن قرر إنزاله إلى أرض الدنيا مع آدم وحواء في إطار الإبتلاء في انتظار العودة إلى الآخرة، وقال الله تعالى للشيطان في الأعراف 15 “قال إنك من المنظرين” لهذا فإن هناك أحكام شرعية تبين وتفسر وتؤكد الحكم المجمل في البقرة 168 – 169 المذكورة أعلاه. ومنها النحل -100-99 “إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون” فالشيطان قرر إغراء الناس وتكفيرهم وصدهم عن صراط الله المستقيم وتشجيعهم على ارتكاب المعاصي والفحشاء والمنكر، وتأتير الشيطان على الإنسان يكون مباشرة بإلقاء كلامه أو إشارات أو بواسطة أوليائه من الكفار والمنافقين. ولا يدخل جسم الإنسان أبدا لأن له ذاته المستقلة كخلق من مخلوقات الله تعالى الأخرى. والإنسان هو الذي يتبع أغواء الشياطين، فليس لهم قدرة إجباره على إتباعهم بل إن مهمة الشيطان لإغواء الناس ابتلاء من الله تعالى لهم لأن الشياطين لا يعترضون قضاء الله وقدره ومشيئته وتصرفه المطلق العادل. فالشيطان خاضع لقضاء الله وقدره حتما، والدليل 34 “ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المومنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالاخرة ممن هو منها في شك” و سورة ص 84-85 “قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين” و الحج 4 ” كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير” فالمؤمن الصالح المتقي الصادق لا يتأثر  بإغواء الشياطين ولا بهوى النفس الأمارة بالسوء بل عقله القرآني يتحكم في تفكيره وأقواله وأفعاله وحواسه، بل يستعمل الله تعالى الشيطان لمعاقبة الكفار في الدنيا والدليل الزخرف 36 – 37 “ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون” و الأعراف 27 “إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون” و مريم 83 “ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا” فالشيطان من مخلوقات الله تعالى  من اجل ابتلاء الناس مثل بعض المخلوقات الأخرى التي خلقها الله تعالى لنفس الغاية ورغم كونها مضرة ومحرمة فهي أداة ابتلاء للناس، منها مثلا الخنزير ليعلم الله من يبتعد عنها طاعة له، فقد خلق الله الخير والشر والمنكر والمعروف ويجازي الإنسان بالرحمة والسعادة إذا اتبع الخير والمعروف ويجازيه بالعذاب والشقاء إذا اتبع الشر والمنكر. فاحذروا إغواء الشياطين وأوليائهم الكفار والمنافقين أيها المسلمون في كل زمان ومكان واحذروا  كذلك هوى النفس الأمارة بالسوء واجعلوا عقولكم القرآنية مسيطرة على نزوات وانفعالات وشهوات القلب الغير المشروعة والمخالفة لحدود وأحكام القرآن. فلا تخافوا من الشياطين وأوليائهم الكفار والمنافقين لأن من شروط الإيمان عدم الخوف منهم والخوف من الله تعالى وحده. فإذا التزم المؤمن الصادق الصالح المتقي بحدود وأحكام القرآن يحصنه الله تعالى من شر أي مخلوق من مخلوقاته ومنهم الشياطين وأوليائهم، والدليل آل عمران 175″إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين” والنساء 119 “ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا” والنساء 121 “أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا” فطاعة الله والالتزام بحدود أحكام القرآن بصدق حصن حصين وأمن وأمان من الله تعالى ضد الشياطين وأوليائهم، ومن الأدلة على ذلك آل عمران 120 “وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط” ومحمد 7 “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” والروم 47 “وكان حقا علينا نصر المؤمنين” وفصلت 30 “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة” فالملائكة تحمي المؤمنين الصالحين المتقين بأمر من الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة. فمن يستطيع أن يغلب ملائكة الله وجنوده.

المثال السابع: استمرار العلاقة الأسرية في الآخرة بالجنة دون جهنم

الحكم الشرعي المجمل في الشورى 45 “إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة”. والأحكام المبينة والمفسرة والمؤكدة له منها الرعد 23 “جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب” و غافر 8 “ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم” والطور 21 ” والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء” والانشقاق 7-9 “فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا”. فالحكم الشرعي في هذه الآيات المبينة للمجمل أن المؤمن الحقيقي الصالح المستحق للجنة إذا كانت زوجته هي أيضا مؤمنة صالحة متقية ومستحقة للجنة يجمعهما الله بقدرته في الجنة ليعيشا معا فيها زوجين كما كانا في الدنيا قبل البعث، ولكن إذا استحقت زوجته جهنم يزوجه الله بالحوريات في الجنة، وكذلك الزوجة المستحقة للجنة إذا أدخل زوجها جهنم يزوجها الله بأزواج مطهرين في الجنة. فالعلاقة الزوجية مستمرة في الدنيا والآخرة، لهذا فزواج المتعة والمؤقت حرام ومخالف لشرع الله تعالى. وإذا كان أولادهم مستحقين للجنة يلحقهم الله تعالى بهما في الجنة كما نصت على ذلك الطور 21، ولكن المبعوث الذي استحق جهنم وأدخل فيها يكون مربوطا بالسلاسل والأغلال وفي العذاب الدائم، فلا علاقة زوجية له ولو كانت زوجته في جهنم فلا تواصل ولا علاقة بينهما. والدليل الشورى 45 “إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة”. لهذا فالذي استحق جهنم بأعماله خسر نفسه وأهله أي زوجته وأبناءه لأنه لا يتصل بهم أبدا ولو كانوا معه في جهنم. فإذا كنتم تحبون زوجاتكم وأبناءكم وآباءكم ولا تريدون خسرانهم والحرمان منهم، فطبقوا أمر الله تعالى الذي أمركم به في التحريم 6 “يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون”.

المثال الثامن : السنة المخالفة للقرآن ليست ملزمة للمسلمين.

الحكم المجمل في الحشر 7 “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” هذه الآية لا تدل نهائيا على أن الله تعالى فوض للرسول سلطة تشريع ما يشاء ولا إصدار الأوامر التي يشاء، ولا تلزم بالطاعة العمياء للرسول، بل الرسول صلى الله عليه وسلم ملزم شرعا بإتباع وطاعة الحاكم والمشرع الأعلى وهو الله تعالى، ولا يجوز  أن يحلل الحرام ولا أن يحرم الحلال الذي حدده القرآن، فالحشر 7 تفرض على المسلمين المشاركين في حرب تبوك طاعة الرسول فيما يقرره بخصوص توزيع الغنائم كما حددها الله تعالى في الحشر8 ” للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون” والحكم الذي يبين هذا المجمل ويفسره ويؤكده في التوبة 58-59 ” ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ” فالمدلول المفهوم من عبارة وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عن فانتهوا  في الحشر 7 يتعلق بتوزيع غنائم الحرب فقط، والدليل على أن الله تعالى لم يفوض سلطة مطلقة لرسوله ولم يلزم المسلمين بالطاعة المطلقة له أن الله تعالى جعل طاعة الرسول وأولي الأمر مقيدة بطاعتهم لله أي الالتزام بحدود وأحكام القرآن. والأدلة على ذلك كثيرة منها: الممتحنة 12 “ولا يعصينك في معروف” أي من الواجب أن يعصينك في المنكر وهو ما يخالف القرآن. الحاقة 43 – 47 ” تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ  لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين”والجاثية 18 : “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها”ويونس 15 ” وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ” والأنفال 24 ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”والأعراف 3 ” اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ” والزمر 55 ” وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ”والأنعام 153 ” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “والأنعام 155 ” وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون”والرسول ليس معصوما من الخطأ كما يدعي أعداء الإسلام الذين يريدون تحريف القرآن بما نسبوه كذبا إلى السنة، فليس في القرآن ما يؤكد ذلك، ولكن عصم الله رسوله من أذى الناس والدليل المائدة 67 “والله يعصمك من الناس”. وقد صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أخطاء كثيرة صححها القرآن. وللمزيد انظر البحث الذي نشرته في موقعي المذكور بالأنترنيت حول موضوع “علاقة السنة بالقرآن”. فالرسول ملزم باتباع القرآن ومسؤول أمام الله عن أعماله لقوله تعالى في المؤمنون 51 “يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم” و هود 112 “فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير” والأعراف 6 “فلنسألن الذين أرسل إليهم ولتسألن المرسلين” و الأنعام 52 ” وما من حسابك عليهم من شيء” فكيف يدعي أعداء الإسلام أن الحشر 7 تعطي سلطة مطلقة للرسول على المسلمين، ولماذا لم يتدبروا هذه الآيات والأحكام المبينة والمفسرة لسورة الحشر 7 لهذا فإن السنة المخالفة للقرآن مهما كان قائلها وراويها لا تلزم المسلمين إذا كانت مخالفة للقرآن .

المثال التاسع: النفاق يلغي الإيمان.

الحكم الشرعي المجمل في البقرة 44 “أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون” فالعالم الذي يعظ الناس ويبين لهم حدود القرآن إذا لم يلتزم بها ليعطي المثل بنفسه للناس فهو منافق ومخادع ومعرض لعذاب الله تعالى إن لم يتب من نفاقه ويؤمن إيمانا صادقا مجسدا فعلا في العمل الصالح والتقوى حتى الموت. ومن الأحكام الشرعية المبينة و المفسرة للبقرة 44 المذكورة العنكبوت 2-3 ” أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين” و سورة الصف 3 “لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” والبقرة 8-9 ” ومن الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون” فالإيمان الصادق يجب أن يتجسد في القول والعمل المطابقين لشرع الله وحدود قرآنه سرا وعلانية حتى الموت، لهذا خصص الله تعالى العذاب الشديد للمنافقين والذين يدعون ويتظاهرون بالإسلام ولكنهم في الواقع أعداء الله تعالى وأعداء المسلمين ويخالفون بأعمالهم حدود القرآن. والدليل النساء 145 – 146 “إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين “.

المثال العاشر : كفارة اليمين

الحكم المجمل في المائدة 89 “لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون” طبقا لحكم هذه الآية من حلف وحنت وجبت عليه كفارة اليمين، ومن الأحكام الشرعية المبينة والمفسرة والمؤكدة لهذا الحكم المجمل المذكور في المائدة 89 هناك التحريم 1-2 “يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم” لهذا فمن حلف وحنت أو بدا له في الحنت خير مشروع أو مصلحة مشروعة بإمكانه الكفارة عن يمينه حسب التسلسل الوارد في المائدة 89 والاستطاعة المادية والمالية. و حلف الإنسان لا يكون مشروعا إلا بالله تعالى أو بأسمائه وصفاته الحسنى، وكل من حلف بغير الله تعالى لا كفارة له كمن يحلف بالأضرحة والكعبة والمسجد والرسول وغير ذلك… ومن فعل ذلك أشرك بالله تعالى، ولا يحلف الإنسان بالله إلا إذا تأكد أنه صادق في حلفه ومتأكد من الوفاء به لتعظيم الله تعالى وإجلاله و الدليل البقرة 224 “ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم”. واليمين التي لا كفارة فيها هي يمين اللغو ويمين الغموس، فيمين اللغو هي الحلف بتسرع وعن غير قصد بسبب هفوة لسان دون تفكير أو اعتقاد خاطئ بحصول شيء لم يحصل فهي يمين التسرع والخطأ أو إذا كان ما حلف عليه مستحيلا وغير مشروع. أما حلف الغموس فهي حلف بالله على الكذب عمدا وبقصد سوء نية . وهذا ما يفعله كثير من المنافقين لكسب ثقة الناس، فحلف البائع للمشتري بأن تكلفة السلعة مئة درهم بينما هي ستون درهما فقط وهو على علم بذلك هدفه الحصول على ربح اكبر، هذه اليمين لا كفارة فيها ولكنها من الكبائر وفيها إثم كبير نظرا لاستعمال إسم الجلالة والعظمة وهو الله عز وجل لابتزاز أموال الناس. والحلف بالله بالسر يوجب الكفارة إذا حنت الحالف مثل الحلف بالجهر لأن الله تعالى يعلم ما يفكر فيه كل إنسان وباستمرار، والدليل البقرة 284 “إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله” والنحل 19 “يعلم ما تسرون وما تعلنون” و البقرة 283 “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم” و المائدة 89 “يؤاخذكم بما عقدتم في قلوبكم” لهذا فالحلف الباطن والسري له نفس حكم الحلف بالقول العلني أمام الغير.

المثال الحادي عشر : لا تجوز شرعا إقامة غير المسلم بدار الإسلام

هناك حكم مجمل في الأنعام 54 “وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم” أمر الله تعالى في هذه الآية الرسول ومعه طبعا المؤمنون بأن يسالم ويتعامل مع المؤمنين الذين يتأكد أنهم ملتزمون بأحكام وحدود القرآن، لأنهم إخوة له ولجميع المسلمين في الدين، ولهم الحق في الإقامة بدار الإسلام. ولكن الحكم الشرعي الغير المنطوق والمفهوم في هذه الآية كما بينت سابقا هو أن الرسول ملزم بعدم مسالمة الكفار وعدم التعامل معهم وأنه لاحق لهم في الإقامة بدار الإسلام لأنهم ليسوا إخوة للمؤمنين بل أعداء الله وأعداؤهم. لقوله تعالى في الحجرات 10 “إنما المؤمنون إخوة” والتوبة 11 “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين”.ومن الأحكام المبينة والمفسرة والمؤكدة لهذا الحكم المجمل ما يلي: “وإن احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه” فالحكم الشرعي  الغير المنطوق في هذه الآية أن الذي لم يسمع كلام الله تعالى من الكفار ومنهم المشركون أي لم يصدقوا ولم يؤمنوا بالقرآن ولم يعملوا بأحكامه فلا حق لهم في الأمن والأمان ولا حق لهم في الإقامة في دار الإسلام. فإذا غادر الكفار دار الإسلام ولم يحاربوا المسلمين فيجب عدم الإعتداء عليهم لأن الله تعالى حرم في عدة آيات الجرب العدوانية ومنها البقرة 190 ” ولا تعدوا إن الله لا يحب المعتدين” وفي النساء 90 “فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا” والنساء 91 “فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا” ونؤيد ذلك أيضا المائدة 33  ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” .و البقرة 193″وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” فلا يجوز أن يكون في دار الإسلام إلا دين واحد هو دين الله الحق الإسلام وشريعته القرآن لأنه لا إيمان بدون الإيمان بالقرآن والدليل محمد 2 ” والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما انُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم” وآل عمران 19 “إن الدين عند الله الإسلام ” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”. لهذا أمر الله رسوله بأن يجاهد الكفار بالقرآن، إما أن يؤمنوا به أو يغادروا دار الإسلام والدليل الفرقان 52 “وجاهدهم به جهادا كبيرا” و الفتح 29 “محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم” ومن الأحكام المبينة لهذا الحكم المجمل الدال على تحريم إقامة الكفار في دار الإسلام أن الله تعالى حرم زواج المسلم بغير المسلمة وحرم زواج المسلمة بغير المسلم. وقد بينت الأدلة على هذا التحريم فيما سبق من هذا البحث فلا داعي لتكرارها، كما أن التحريم 6 تفرض على كافة المسلمين إلزام أنفسهم وزوجاتهم وأبنائهم بالتقوى. لهذا لا يجوز أن تكون أسرة أو فرد في دار الإسلام غير مسلم. و من جهة أخرى فإن القرآن شريعة كل البشر في العالم. لهذا لا يقيم في دار الإسلام من يكفر ويستهزئ بها لحماية المجتمع الإسلامي من جراثيم الكفر المدمرة والقاتلة للمسلمين، ومن الأدلة قوله تعالى النساء 89 “ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء” والبقرة 217 “ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا”. وأحيلكم على البحث الذي نشرته في موقعي على الأنترنيت حول موضوع “بطلان التوراة والإنجيل بالقرآن وأحكام الكفر والإيمان” والبحث الآخر الذي نشرته في نفس الموقع حول موضوع “آيات القرآن التي أسندت الحكم والسلطة للأمة الإسلامية في دار الإسلام”.

المثال الثاني عشر : الإرث الحقيقي في الجنة وحدها

الحكم المجمل في مريم 63 “تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا” وهناك احكام شرعية مبينة ومفسرة ومؤكدة له في آيات أخرى. ومنها قوله تعالى على لسان رسوله إبراهيم عليه السلام في الشعراء 85 “واجعلني من ورثة جنة النعيم” والزمر73 – 74 ” وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين”.

فالأرض التي أورثها الله تعالى للمتقين في الآخرة هي أرض بالسماوات وليست أرض الدنيا التي نحن فيها. وهذه الأرض التي في الدار اللآخرة فيها الجنة وجنهم،  أما أهل الجنة فإنهم في حياة طيبة أبدية والدليل الدخان 56 ” لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم”. والمستحقون لجهنم بعد البعث والحساب يكبلون ويربطون بالسلاسل والأغلال ولا يتصرفون في أي شيء ولا حرية لهم.والدليل قوله تعالى طه 74 ” إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى”، لأنهم في العذاب الدائم ما هم بأحياء ولا أموات والدليل فاطر 36 ” والذين كفروا لهم نار جهنم لايقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها “. بل الملائكة هم الذين يعطونهم قليلا من الماء والأكل كي لا يموتوا ويبقوا في العذاب الدائم الأبدي، أما أهل الجنة الذين استحقوها بعد البعث والحساب بأعمالهم الصالحة والتزامهم بآيات الله تعالى وطاعتهم له في الدنيا وبتقواهم فإنهم يرثون فعلا أرض الجنة يتصرفون في نعيمها وما فيها من ملك ورزق لا يبلى ولا يفنى. لهذا قال الله تعالى عن أصحاب الجنة في سورة المؤمنون 10-11 “أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، هم فيها خالدون” وهذا هو الإرث الدائم الأبدي الحقيقي. أما في الدنيا فإن الإنسان يتصرف في ملك الله تعالى على سبيل الإستخلاف والانتفاع المؤقت خلال فترة الحياة الدنيا المؤقتة، والدليل هود 61 “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” و الحديد 7 ” و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” ما يملك في الدنيا في الأصل لله ولله ملك السماوات والأرض. لا يمكن لإنسان حضره الموت حمل ما يملك إلى الدار الآخرة ولو مثقال ذرة. بل يترك كل ما كان يتصرف فيه وينتفع منه، ولا ينفعه إلا عمله الذي عمله طيلة حياته بالدنيا إن كان عملا صالحا ومطابقا للقرآن. فهذه التقوى وطاعة الله في الدنيا هي التي تخوله سعادة الجنة التي يورثها الله تعالى للمؤمنين الصالحين المتقين لأنهم يتصرفون في نعيمها على الدوام والخلود. ومن الأحكام المبينة والمفسرة للحكم المجمل في مريم 63 هناك الكهف 107 – 108 “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا” والأعراف 43″ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون” لهذا فلا يرث أرض الجنة إلا المؤمنون الصالحون المتقون، فاعمل أيها المسلم لمتاع الدنيا الحلال وساهم في إعمار الأرض كما أمر الله تعالى لتنعم بسعادة الدنيا وزينتها التي خلقها الله لك ولكن اعلم أن مرحلة حياتك في أرض الدنيا مؤقتة ومنتهية بالموت حتما وسوف تبعث حيا وتحاسب عن أعمالك التي عملتها في الدنيا وهناك الجزاء المقابل لها إما الجنة وإما جهنم، لهذا تمتع بالحياة الدنيا المؤقتة في إطار عبادة الله الواجبة شرعا، والعمل الصالح والتقوى أي الإلتزام بأحكام القرآن وحدوده حتى الموت لتفوز بسعادة الجنة الدائمة في الآخرة وترث الإرث الحقيقي الدائم وهو الجنة. لا يرث الإنسان ما في الدنيا لأن الإرث معناه ملكية على الدوام والخلود بدون حدود زمنية، وفي الدنيا كل نفس ذائقة الموت وتاركة ما كانت تتصرف فيه حتما، والأدلة منها آل عمران 185 “كل نفس ذائقة الموت” و الأنبياء 34 “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد” النساء 78 “أينما تكونوا يدرككم الموت ” والرحمن 26-27 “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام”. فأرض الدنيا لا يرثها البشر لأنهم ميتون، وعندما تقوم الساعة الكبرى الختامية حيث تزلزل الأرض ويموت ويفنى كل من عليها ويبعثون في الآخرة للحساب، فإن الله تعالى هو الذي يرث أرض الدنيا، والدليل مريم 40 “إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا ترجعون”. فتمتع بزينة الحياة الدنيا التي خلق لك الله أيها الإنسان في الحلال لأنه حق مشروع لك واعمل بجد ولكن في نفس الوقت اعمل للآخرة أيضا بجد وإخلاص وذلك بالتقوى والالتزام بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت وبذلك نفوز بسعادة الدنيا والآخرة ويورثك الله تعالى نعيم الجنة الخالد الدائم الأبدي.

المثال الثالث عشر : الصدقة فريضة من الله تعالى على من له فائض

هناك حكم مجمل في سورة التوبة 60 “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم” وهناك أحكام شرعية أخرى مبينة ومفسرة ومؤكدة له في آيات كثيرة، وهي التي تساعد مفسر القرآن على استنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بالصدقة، ومنها ما يلي:

أ-الأحكام التي أكدت أن الصدقة فريضة من فرائض الإسلام:

التوبة 60 المذكورة أعلاه أكدت صراحة أن الصدقة من فرائض الإسلام وتؤيدها إبراهيم 31 “قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال” والروم 38 “فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله و أولائك هم المفلحون” فإعطاء الزكاة والصدقة لذوي القربى المحتاجين والمساكين وابن السبيل وفي سبيل الله واجب فرضه الله تعالى وخصص له الجزاء. و من الآيات التي فرضت الصدقة النحل 90 “إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى” فهذا أمر من الله تعالى من فرائض الإسلام مثل الصلاة. و النساء 36 “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل…” لا يجوز شرعا أن يكون مسلم له فضل وفائض زائد عن حاجياته و جاره المسلم يتألم و يصيح من شدة ألم الجوع. ومن الأحكام الشرعية الدالة على أن الصدقة فريضة من الله مثل الزكاة الذاريات 19 “وفي أموالهم حق للسائل والمحروم” ونفس الحكم في المعارج 24-25 “والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” فاعلم أيها المسلم أن الزكاة الواجبة والمستحقة في أموالك حق للفقراء والمساكين وابن السبيل والمحرومين من المال لأسباب خارجة عن إرادتهم كالمعاقين وذوي العاهات الفقراء، وإذا كان لديك فائض عن حاجياتك وحاجيات من يجب عليك الإنفاق عليهم كالوالدين والزوجة والأبناء فإنه من الواجب عليك أن تتصدق ولو أعطيت الزكاة المستحقة كل سنة لأن الزكاة والصدقة من حق الفقراء المسلمين الذين يستحقونها. ومن الآيات التي تفرض الصدقة البقرة 219 “ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو” والنور 22 “ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم” ومما يدل على أن الصدقة من فرائض الإسلام آل عمران 180 والتغابن 16. إن الله تعالى خصص لمن بخل ولم يتصدق على المسلمين الفقراء رغم قدرته العذاب الشديد، والدليل النساء 37 “الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا” وآل عمران 180 “ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ” والتوبة 34 -35 ” والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون” والتغابن 16 “ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” و الحاقة 33-35 ” إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم” والمدثر 40-47 “في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ولم نك  نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين”. هذا العذاب الذي خصصه الله تعالى للبخلاء الذين لا يتصدقون رغم توفر الفائض لديهم دليل على أن الصدقة من فرائض الإسلام مثل الصلاة والزكاة. ولكن لا يتعلق الأمر بكنز الذهب والفضة فقط بل حسب تطور العصر يشمل هذا الحكم الشرعي كذلك من يكنز النقود الورقية والمعدنية والسلع والمواد الغذائية والعقارات من اجل المضاربة وأكل أموال الناس بالباطل. وهذا دليل على وجوب اجتهاد علماء الإسلام لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة للعصر وتحديد كل ما تجب فيه الزكاة والصدقة وتوزيعها يعدل على من يستحقها من المسلمين، وإنفاقها في سبيل الدعوة الإسلامية وهذا ما أمر به الله في التوبة 103 “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. ومما يدل على أن الصدقة فريضة من الله تعالى أنه يتخلى عن البخيل الذي لا يعطيها وينساه، والدليل التوبة 67 “ويقيضون أيديهم نسوا الله فنسيهم” حرم الله تعالى الإسراف والتبذير في الإنفاق وجعل المبذر مثل الشيطان وله نفس مصيره وهو جهنم وأمر بالصدقة عوض التبذير والإسراف في الإنفاق، والدليل الإسراء 26 -27 “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا”. لهذا أمر الله تعالى بالصدقة وفرضها على المسلمين، والدليل الحديد 7 “و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”. وقد ادعى البخلاء أن فريضة الزكاة نسخت فريضة الصدقة، وهذا غير صحيح ولا أساس له في القرآن، فالزكاة مفروضة مرة في السنة إذا تحقق النصاب الشرعي، أما الصدقة فإنها مفروضة طيلة أيام السنة إذا تحقق الفائض والمال الزائد عن الحاجيات المشروعة دون تبذير ودون إسراف في الإنفاق لأن الله تعالى حرم ترك نفس بشرية مسلمة تموت جوعا وهي تعبد الله تعالى، فمن الواجب أنقادها بالصدقة ولا تنتظر حتى يتحقق النصاب في الزكاة وتمر السنة عليه ولا يجوز شرعا إعطاء الزكاة والصدقة إلا للمسلمين الفقراء. و لا تعطى للكفار والمنافقين. والأدلة الشرعية على ذلك سبق ذكرها فلا داعي لتكرارها.

ب) الأحكام التي خصصت الأجر والحسنات للمتصدق

خصص الله تعالى للمتصدقين أجرا مهما وحسنات تكتبها الملائكة في كتاب أعماله تنفعه يوم الحساب في الآخرة، بل الله تعالى قادر على مكافأة المتصدق في الدنيا قبل الآخرة والدليل الليل 5-11 “فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى”. والفجر 15-20 “فأما الإنسان إّذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحظون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما”. فإذا تصدق المسلم لوجه الله تعالى بنية صادقة وإيمان صادق بدون المن والأذى والرياء فإن الله تعالى يخصص له الأجر والحسنات في كتاب أعماله. والدليل البقرة 262-263 “الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم” والبقرة 271 “إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير” والبقرة 264 “يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رياء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين” والبقرة 274 “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”والبقرة 272 “وما تنفقون من خير فلإنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون”.

ولكن الله تعالى أمر المتصدق بأن لا يسرف في الصدقة وأن لا يبذر وأن يراعي الإنفاق الواجب عليه لنفسه وأسرته لكي لا يصبح هو أيضا محتاجا إلى الصدقة من الناس. والدليل الفرقان 67 “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” والإسراء 29 “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”. ولكن لا تجب الصدقة إلا للفقراء والمحتاجين من المسلمين أما الكفار فقد حرم الله تعالى إعطاءهم الزكاة والصدقة لأنها تقويهم وهم أعداء الله والإسلام والمسلمين والدليل الأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” والفتح 29 “محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”.و التوبة 73 ” يَآأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الۡكُفَّارَ وَالۡمُنَافِقِينَ وَاغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ وَمَأۡوَاهُمۡ جَهَنَّمُ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ ” ولا يقبل الله تعالى الزكاة والصدقة من غير المسلم والدليل التوبة 53 “قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتن قوما فاسقين”. ولا تجوز الزكاة والصدقة إلا من المال الحلال المشروع. فتاجر الخمر لا تقبل زكاته ولا صدقته وكذلك مدخول السرقة والدعارة وغيرها كالمخدرات والربا.

المثال الرابع عشر: الصلح بين المسلمين فريضة من فرائض الاسلام

هناك حكم مجمل في هذا المجال في سورة الانفال 1″ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين” فالتقوى و إقامة علاقات السلم والأمن والتعاون والأخوة في الدين الاسلامي والصلح بين المسلمين من شروط الايمان. هناك واجب شرعي فرضه الله عز وجل على المسلمين وهو إقامة علاقات الصلح والأمن والتعاون بين بعضهم البعض من أجل عبادة الله تعالى وإعمار الأرض كما أمر الله تعالى في الذاريات 56 وهود 61 وذلك في إطار تطبيق أحكام القرآن في دار الاسلام، وإعداد القوة الضرورية للدفاع عن دين الله الاسلام وعن دار الاسلام وعن المسلمين كما أمر الله تعالى في عدة آيات منها الانفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”. وسوف اتعر ض لكثير من الاحكام الشرعية التي بينت وفسرت وأكدت هذا الحكم المجمل في الانفال (1) المذكورة أعلاه.

أ-آيات أمرت بالصلح بين المسلمين :

من هذه الايات الانفال 46 “وأطيعوا الله ورسوله ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين” . فليس من مصلحة المسلمين أن يتنازعوا ويتحاربوا فيما بينهم لأن ذلك يؤدي إلى إزهاق الارواح بغير حق وتبدير موارد الدولة الاسلامية. لهذا أمر الله تعالى المسلمين بأن لايتنازعوا فيما بينهم وأن لا يحاربوا غير المسلمين الا في حالة الدفاع الشرعي في مواجهة عدوان الكفار عليهم، ولهذا أمر الله تعالى بإقامة علاقات التعاون والسلم بين كافة المسلمين في دار الاسلام. والدليل البقرة 208 ” يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين” وآل عمران 175 ” إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” وفاطر 6 ” إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ” وفعلا الهدف الاسمى للكفار والشياطين هو بث التفرقة بين المسلمين بمختلف الوسائل والاسباب وإشعال نار الفتن والحروب بينهم لإضعافهم وتكفيرهم والسيطرة على مواردهم الاقتصادية واستعبادهم. وهذه الاية تؤيدها الاسراء 53 ” وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن أن الشيطان ينزع بينهم إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا” ولهذا حدد الله تعالى قانونا أساسيا ملزما لحل النزاعات بين المسلمين المتنازعين في الحجرات 9-10 ” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ الى امر الله ، فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون”. فالسلطات الاسلامية في بلاد الاسلام ملزمة شرعا بمحاربة الطائفة المعتدية إلى أن تلتزم بالقرآن وترد الحقوق لأهلها ثم تحكم بين المتنازعين بالعدل وذلك إذا فشلت الطرق الدبلوماسية والسياسية في اقامة الصلح بين المتنازعين، ولكن لا يجوز شرعا تطبيق القانون الاجنبي على المسلمين ونزاعاتهم إذا كان مخالفا للقران. لهذا فنظام ومؤسسات ما يسمى “الامم المتحدة ” مجرد أدوات وتقنيات لفرض هيمنة الدول الكبرى الغير الاسلامية على العالم . ويكفي تحليل ميثاقها للتأكد من ذلك. ومن الاحكام الشرعية المبينة للحكم المجمل وفرضت الصلح بين المسلمين المجادلة 9  ” ياايها الذين امنوا اذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي اليه تحشرون” فكل حوار ونقاش وكلام بين المؤمنين لا يجوز شرعا اذا كان موضوعه مخالفا لأحكام وحدود القرآن.فاتباع القران في كافة دار الاسلام يوحد المسلمسن ويحقق أخوتهم وتضامنهم وتعاونهم في اطار السلم والامن والسكينة والدليل آل عمران 103 ” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا”. فنعمة الله التي وحدت المسلمين هي القران الذي اتبعوه في بداية الدعوة الاسلامية ومن الايات التي امرت بالوحدة حول القران وعدم الاختلاف في تفسيره وتطبيقه البقرة 176 ” ذلك بان الله نزل الكتاب بالحق وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد” أما في  العصور اللاحقة حتى اليوم فان اعراض كثير من المسلمين عن القران فرقهم فاصبحوا اعداء متنازعين ومتصارعين فتخلفوا وخضعوا لسيطرة الكفار. لهذا يجب على المسلمين العودة الى القران والايمان الصادق والعمل باحكامه الشرعية قولا وعملا سرا وعلانية . وباللإلتزام بالقران بصدق تتحقق وحدة المسلمين حتما ويقع الصلح بينهم وتسود علاقات الاخوة بينهم وينتصرون على أعداء الاسلام وأعدائهم. فالقران حكمة الله تعالى واتباعه فوز ونجاح في الدنيا والاخرة وقد فرض الله الحكم بين الناس بما في القران وهو الذي يوحد المسلمين ويصلح أحوالهم والأدلة النساء 128 ” وان امرأة خافت من بعلها نشوزا او اعراضها فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا والصلح خير” والبقرة 224 ” ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم” والنساء 114 ” لاخير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما “. فسارع ايضا المسلم الى اجراء الصلح بين اخوانك المسلمين المتنازعين فإذا تفوقت في ذلك فاعلم أن لك أجرا كبيرا هو الحسنات التي تسجلها الملائكة بأمر من الله تعالى في كتاب أعمالك حيث تنفعك يوم الحساب في الاخرة. ومن هذه الايات الدالة على وجوب اجراء الصلح بين المسلمين ال عمران 104 ” ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”. والصلح بين الناس من الخير الذي أمر الله المسلمين بإقامته بين الناس والدليل النساء 128 ” .. والصلح خير” .

ب – الاحكام التي أمرت بوحدة المسلمين تساعد على الصلح بينهم.

من الأحكام المبينة والمفسرة والمؤكدة للحكم المجمل في الانفال (1 المذكورة أعلاه) هناك الاحكام التي أمرت بوحدة المسلمين وفرضتها في الدين الاسلامي والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بدار الاسلام حيث تقوم دول بسيطة اسلامية تتوحد بينها بدولة اتحادية توحدها ويطبق فيها القران والقوانين الاسلامية المتفرعة عنه في كل بلاد الاسلام طبقا لدستور اسلامي واحد مطابق للقرآن. ان من أهم الاحكام الشرعية التي تحافظ على علاقات الاخوة والصلح بين المسلمين الحكم الذي أمر بإقامة العدل المطلق بين الناس في دار الاسلام. ومنها النحل 90 ” ان الله يامر بالعدل والاحسان” والنساء 58 ” ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”.امر الله تعالى بالعدل بين الزوجات والابناء والدليل النساء 3 ” فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة” فلا يجوز التعدد شرعا الا اذا توفر شرط العدل في الانفاق والجماع بين الزوجات. ويجب ان يكون العدل مطلقا سواء بين الناس او بينهم وبين الحكام وأولي الامر. فتطبيق القرآن والتزام المسلمين به بصدق قولا وعملا سرا وعلانية يؤدي حتما الى قيام مجتمع اسلامي اساسه الاخوة والمحبة والمودة والتعاون والتضامن بين المسلمين لأن إقامة العدل المطلق في المجتمع الاسلامي تؤدي إلى حماية الحقوق والحريات التي حدد القرآن قواعدها ومبادئها. وتؤدي أيضا الى قيام علاقات الصلح والسلم والأمن والطمأنينة والاحترام بين الناس. فالمؤمنة مثلا إذا خرجت من بيتها للتسوق او العمل او قضاء حاجياتها المشروعة لا تخاف ظلما ولا عدوانا لأن من شروط الايمان الالتزام بأحكام القرآن ومنها النور 30 ” وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ” فالنظرة الثانية للمرأة محرمة على المؤمن فبالاحرى لمسها او الاساءة اليها. وقد امر الله تعالى فعلا المؤمنين بالتعاون على اقامة علاقات الصلح والاخوة والتضامن . والدليل المائدة 2 ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تتعاونوا على الاثم والعدوان” والتوبة 71 “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله” ولهذا أسند القرآن الحكم والسلطة للأمة الاسلامية او الشعب المسلم في دار الاسلام. ويجب على المسلمين انتخاب اولي الامر والحكام المتقين المؤهلين ومراقبتهم لفرض تطبيق شرع الله القرآن كما أمر الله تعالى وهذا أمر من الله تعالى بنبذ الظلم والعنف والنزاعات وإقامة علاقات الاخوة والعدل والتعاون. لو قمنا بدراسة ميدانية في كل المجتمعات بالعالم وعبر مختلف العصور عن الأسباب الرئيسية للنزاعات البشرية لوجدنا أنها تعود لنزاعات حول مال الانسان وعرضه ودمه. والتشريع القرآني حكمة الله تعالى. وفيه القواعد والقوانين والاحكام الشرعية الهامة التي حمت مال الانسان وعرضه ودمه. ويكفي تدبر القرآن لاستنباطها. والاخوة الاسلامية لا تكون لهدف مادي أو مقابل امتيازات ولو كانت مشروعة بل انها مبنية على رابطة مشتركة بين المسلمين هي حب الله تعالى واتباع منهج واحد هو حكمة الله تعالى القرآن وليس على تبادل المصالح والمنافع. والدليل البقرة 165 ” والذين آمنوا أشد حبا لله” فالمسلمون لهم أمل كبير مشترك هو العمل بأحكام القرآن للفوز بالجنة و النجاة من النار. وهم يعلمون أنهم سيكونون أيضا اخوة في الجنة متحابين متضامنين والدليل الحجر47 ” ونزعنا ما في صدورهم من كل إخوانا على سرر متقابلين” وسأبين الاحكام الشرعية التي أمرت بالوحدة بين المسلمين في دار الاسلام والتي تساعد على إقامة الصلح الدائم بينهم. ومنها مايلي : الحج 78 ” واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير” هذا أمر من الله تعالى للمسلمين بأن يتوحدوا حول الله تعالى وذلك باتباع القرآن والالتزام به، والاعتماد على الله بعد القيام بالاسباب المشروعة. لقوله تعالى محمد 7 “إن تنصروا الله ينصركم ” و آل عمران 160 ” إن ينصركم الله فلا غالب لكم” و الروم 47 “وكان حقا علينا نصر المؤمنين”. والحج 78 المذكورة تؤيدها ال عمران 103 ” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” وهذا أمر من الله تعالى بالتوحد واتباع القرآن لأنه حبل الله الذي ينجي من اتبعه والتزم باحكامه وحدوده قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت.ومن الاحكام التي فرضت وحدة المسلمين الانعام 159 ” إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ”. فكل من تفرق عن المسلمين وكون فرقا ومذاهب مختلفة وشيعا يعتبر كافرا ومشركا بالله تعالى ومحطما لوحدتهم التي أمر الله بها. فالتفرقة في الدين والاختلاف ومخالفة ما اتفقت عليه الاغلبية المطلقة لعلماء الإسلام كفر بالله تعالى. لهذا خصص الله تعالى العذاب الشديد لكل من فرق المسلمين الى شيعة وفرق متعارضة ومختلفة. والدليل آل عمران 105 ” ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم”. هل هناك من يكذب هذه الآية وما فيها من حكم شرعي ملزم وأمر واضح يأمر بوحدة المسلمين ويخصص العذاب الشديد لكل من اتبع الفرق والمذاهب التي تدعي أنها دينية اسلامية في حين أنها في الواقع تيارات شيطانية تفرق المسلمين عمدا وتشوه وتحرف شريعتهم القرآن لخدمة مصالح الكفار الاقتصادية والسياسية للقضاء على الاسلام وتكفير المسلمين. فعودوا أيها المسلمون إلى القرآن وتعاونوا على فهمه واستنباط احكامه الشرعية. وما تتفق عليه الاغلبية المطلقة لعلماء الاسلام في كل بلاد الاسلام يجب اتباعه والدليل على ذلك النحل 42 ” فاسألوا أهل الذكرإن كنتم لا تعلمون” هذا أمر من الله تعالى يلزمنا باتباع ما يوافق عليه أهل الذكر بالإجماع أو الأغلبية المطلقة في بلاد الاسلام. لنفرض أن في دار الاسلام مئة من أهل الذكر وسألناهم سؤالا فالذي تصادق عليه أغلبيتهم المطلقة وهي 51 على الاقل يجب علينا اتباعه شرعا. وكل فتوى وتفسير للقرآن أصدره عالم من علماء الإسلام إذا لم تصادق عليها الأغلبية المطلقة باطل. ومن الاحكام التي تفرض وحدة المسلمين الشورى 13 ” شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” فلا يجوز شرعا التفرقة في الدين الاسلامي ومما يؤيد ذلك الانعام 153 ” وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”. فكل المسلمين في دار الاسلام ملزمون شرعا باتباع حدود وأحكام القرآن التي تحددها الاغلبية المطلقة من علماء الاسلام في كل بلاد الاسلام. وهناك أيضا الانعام 159 ” إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ ” فكل من اتبع الفرق والمذاهب التي اختلفت مع ماصادقت عليه الاغلبية المطلقة لعلماء الاسلام يعتبر هو أيضا خارجا عن إجماع الأمة الاسلامية ومخالفا لأمر الله تعالى وبالتالي يتعرض لعذاب الله الشديد إن لم يثبت توبة صادقة. فتدبر أخي المسلم الروم 31-32 ” ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون”.فتوحدوا أيها المسلمون في كل بلاد دار الاسلام كما أمركم الله حول كتابه الحكيم القرآن والتزموا بأحكامه وحدوده قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت لتفوزوا بسعادة الدنيا والاخرة.

المثال الخامس عشر : مدلول الذكر في القرآن.

الحكم المجمل في يس 11 ” إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب”. إن كلمة الذكر وردت في آيات كثيرة في القرآن . فهناك كثير من الاحكام الشرعية التي بينت وفسرت وأكدت الحكم الشرعي المجمل في يس 11 وبعد تدبرها وتحليلها تأكد أن للذكر في القرآن معنيين المعنى الاول يدل على أن الذكر هو القرآن . كما أن شرائع الله تعالى السابقة والتي نسخها القرآن هي أيضا ذكر انزله الله تعالى. والمعنى الثاني يدل على أن الذكر يعني أيضا ذكر الله تعالى أي النطق باسم الجلالة وهو الله وباسمائه الحسنى وصفاته العلى.

 أ- المعنى الأول : الذكر هو القرآن .

  هناك آيات كثيرة بين فيها الله تعالى بأن الذكر يعني القرآن. والادلة منها آل عمران 58 ” ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم ” والحجر 9 ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”الأنبياء 50 ” وهذا ذكر مبارك أنزلناه ” والنحل 43 ” فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” و القلم 52 ” وما هو الا ذكر للعالمين” وأهل الذكر هم أهل القرآن الذين يبحثون في علومه ولهم كفاءة علمية لشرحه وتفسيره وتبليغه للناس وهم علماء الاسلام في كل بلاد المسلمين ودار الاسلام. ومنهم كذلك الاساتذة الباحثون في الدراسات الاسلامية القرآنية. فهذه الايات أكدت أن الذكر في كتاب الله يقصد منه القرآن ويؤكد ذلك أيضا ال عمران 58 ” ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ” . وطه 99 ” وقد أتيناك من لدنا ذكرا” وكل شرائع الله تعالى وكتبه التي انزلها على رسله لتبليغها للناس لها نفس المعنى مثل القرآن فهي كلها مثل القرآن ذكر من الله تعالى اي كلامه المنزل للناس في مختلف المراحل التاريخية التي عرفتها البشرية ومن الأدلة ما يلي : ذكر الله تعالى في القرآن قصة قوم تمود الذين كذبوا برسالة الله تعالى المنزلة لهم بواسطة رسوله حيث جاء في القمر 25 ” أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر” فالذكر في الاية هو شرع الله تعالى المنزل إليهم. وقال الله تعالى عن الثوراة التي أنزلها على رسوله موسى عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه في الانبياء 48 ” ولقد أتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين” فالذكر المنزل على الرسل هو آيات الله تعالى اي شرائعه وكتبه التي شرعها للناس والتي نسخها القرآن

ب – المعنى الثاني : الذكر هو النطق سرا أو علانية باسماء الله تعالى

الذكر في هذا المعنى لا يعني القرآن ولكن هو النطق سرا أو علانية باسم الجلالة وهو الله تعالى وباسمائه الحسنى . وهو حمد الله عز وجل وشكره على نعمه وفضله وإحسانه والثناء عليه. و تقديسه وإجلاله والنطق بأسمائه وصفاته الحسنى.والذكر يعني تذكر الله تعالى باستمرار في كل حين وعدم نسيانه وتذكر كذلك آيات القرآن وعدم نسيانها للالتزام بها وبحدودها لهذا فرض الله تعالى الصلوات الخمس لذكر أسماء الله الحسنى وقراءة القرآن والدليل الأعلى 14-15″ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ” والجمعة 9 “يا أيها الذي آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع”. فعقل المسلم يجب أن يكون دائما عقلا قرآنيا يذكر حدود الله تعالى ليسلط اللجام على النفس الأمارة بالسوء وهوى القلب وطغيان الجوارح فلا يسمح عقل المسلم القرآني إلا بالتفكير والقول والعمل المطابقين لحدود القرآن سرا وعلانية حتى الموت. فمن نسي القرآن و ذكر ربه ينساه الله ولا يحميه ولا يهديه إلى صراط الجنة والدليل طه 125-126 ” رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى”. و من الأدلة على أن الذكر يعني أيضا ذكر الله باللفظ وتسبيحه وحمده وشكره الجمعة 10 “فإذا قضيت الصلاة فانشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون”. أمر الله تعالى المسلمين بان يباشروا أعمالهم الحلال بمجرد الانتهاء من أداء الصلاة للحصول على مصادر طعامهم وإشباع حاجياتهم المشروعة ولكن في نفس الوقت أمر هم بذكره أي النطق بأسمائه وصفتاه الحسنى. واعتبر ذلك شرطا للفوز في الحياة الدنيا والآخرة. فلا يجوز العمل الحلال بدون ذكر الله تعالى. وهذا الدليل تؤيده النور 37 “رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار”. إن ذكر الله أي النطق باسمه العظيم الله وبأسمائه وصفاته الحسنى واجب شرعي فرضه الله تعالى. والأدلة كثيرة منها الأحزاب 41 – 42 ” يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا” و طه 8 “الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى”. والروم 17″ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون” فالتسبيح لله تعالى يجب أن يتم خلال دقائق بعد صلاة المغرب في المساء وبعد صلاة الصبح عند الفجر لهذا أنشر لائحة أسماء الله الحسنى كما صادق عليها علماء الإسلام ليذكر بها المسلمون الله تعالى. و سأذكر بعض الآيات التي وردت فيها كلمة الذكر والتي تعتبر متعلقة بذكر أسماء الله تعالى وحمده وتسبيحه والثناء عليه وشكره. ومنها المنافقون 9 ” يا أيها الذين آمنوا لا تلهيكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون” و الزخرف 36 ” ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين” وطه 124 “ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى”. فسر لنا الله تعالى وبين أن المقصود من كلمة الذكر في هذه الآيات هو القرآن وذلك في طه 125-126 “رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى”. فالذكر الذي هو القرآن ليس ذكر أسماء الله والثناء عليه وحمده. لهذا فإن الذي اعرض عن القرآن وأهمل أحكامه وحدوده ولم يلتزم بها ولو ذكر الله وأسماءه الحسنى ألفا مرة كل يوم فإن عمله وقوله باطلان وهو مستحق لعذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة لأنه منافق. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار في جهنم إذا لم يتوبوا. كم من منافق له لحية طويلة ويحمل أمام الناس آلة التسبيح ويحرك شاربيه متظاهرا بذكر الله تعالى ولكنه يخالف حدود القرآن ويمارس الزنا ويتعاطى الربا والخمر ويظلم الناس. فلا ينفعه التسبيح والذكر بالألفاظ. لهذا يحب العمل بأحكام القرآن وذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى كلها وهي تسعة وتسعون اسما والدليل الأعراف 180 “ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون” و فيما يلي لائحة أسماء الله الحسنى و ألتمس منكم كتابتها في ورق مقوى لقراءتها دائما عند الذكر و التسبيح و ذلك في حالة عدم حفظها و خاصة بعد صلاتي المغرب و الفجر:

جدول أسماء الله الحسنى:

السّلامُ القدُّوسُ الملكُ الرحمن الرحيم الله
المتكبّرُ الجبّارُ العزِيزُ المُهيمنُ المؤمنُ
القهّارُ الغفَّارُ المُصوَّرُ البارئُ الخالقُ
القابضُ الباسطُ العليمُ الفتّاحُ الرّزّاق الوهّابُ
الحَكمَ البصيرُ السّميعُ المُعز المُذِل الخافضُ الرافعُ
الغفورُ العَظيم الحَليم الّلطيفُ الخَبيرُ العَدّل
المُقيتُ الحَفيظُ الكَبيرُ العَليُّ الشكورُ
المُجيبُ الرّقيبُ الكَريمُ الجليلُ الحَسيبُ
البَاعثُ المجيدُ الوَدُودُ الحَكيمُ الوَاسعُ
المَتِينُ القَوي الوَكيلُ الحَق الشَّهيدُ
المُحيي المُميتُ المُبدئُ المُعيدُ المُحصيُّ الحَميد الوَليُّ
الوَاحدُ المّاجدُ الوَّاجدُ القَيُّومُ الحَيُّ
الأَوّلُ المُقَدِّمُ المُؤَخَّرُ المُقتدِرُ القادِرُ الصّمَدُ
المتَعال الوَالِي البَاطِنُ الظّاهرُ الآخِرُ
الرؤوفُ العفُوُ المنتقِمُ التوّابُ البرُ
الغنيُّ الجامعُ المُقسطُ ذو الجَلال وَالإكرام مالكُ المُلك
الهادي النّورُ الضّارُّ النّافعُ المانِعُ المُغنِيُّ
الصبّوُرُ الرّشيدُ الوارِثُ الباقي البديع

المثال السادس عشر من يخالف أحكام وحدود القرآن قولا وعملا مجرم ما لم يتب

إن هذا الكون لم يوجد عبثا بل هو من خلق الله تعالى وكل ما فيه من خلقه عز وجل ونحن بنوا الإنسان من خلق الله الذي يملكنا ويتصرف فينا وفي الكون كله. وقد خلقنا الله عز وجل لهدفين أساسيين هما عبادته والمساهمة في إعمار الأرض إلى أن يحل أجل الموت الخاص بكل إنسان أو قيام الساعة الكبرى الختامية التي يموت فيها كل الناس حتما. وهناك هدف آخر من وجودنا المؤقت في الدنيا وهو امتحان واختبار وابتلاء الناس في الدنيا لاختيار من يعيش بعد البعث من الموت حياة أبدية دائمة في سعادة الجنة ومن يكون دائما وأبدا في عذاب جهنم. ومعيار الاختيار في هذه الحالة هو الالتزام أو عدم الالتزام بإحكام وحدود القرآن لأنه مادة وقانون الامتحان والاختبار والابتلاء في هذه الحياة الدنيا المؤقتة. كل دول العالم عبر مختلف العصور تتخذ القوانين الوضعية التي تنظم شروط الحياة في المجتمع والتعامل مع الآخرين. وكل من خالف هذه القوانين يعتبر مجرما لأن مخالفة القانون تعتبر إجراما في حق الفرد والمجتمع يستحق عليه المجرم العقاب ورد الحقوق إلى أصحابها. وقوانين الدول الغير الإسلامية تتخذها الأغلبية حسب هواها ورغباتها ومصالحها حسب ما يوافق عليه الشعب ولو كان مخالفا للأخلاق وشريعة الله تعالى. طبعا حقوق وحريات الإنسان في الدول الغير الإسلامية يحددها الشعب أو ممثلوه حسب رغباته وهواه. و في الدولة الإسلامية فإن حقوق وحريات الإنسان حددها الله تعالى في القرآن ولا تجوز مخالفتها في كل زمان ومكان. أما في الدولة الإسلامية فإن الأمة الإسلامية أو الشعب المسلم ومنه علماء الإسلام الصالحون والمتخصصون في علوم القرآن والدراسات الإسلامية تطبق القرآن في شكل قوانين وضعية والقوانين الوضعية يجب أن تكون مطابقة لحدود وأحكام القرآن. فالقرآن شرع الله وقانونه الأسمى والأساسي الذي أراده للناس وهو مادة ابتلائهم فلا تجوز مخالفته أبدا. ومن خالفه مجرم مستحق للعقاب في الدنيا من طرف السلطة الإسلامية ومستحق لعذاب الله أيضا في الدنيا وفي جهنم بالآخرة. وأذكركم ببعض الأحكام الشرعية الدالة على ذلك لأنه سبق ذكرها ومنها: الزمر55 “واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لاتشعرون” والجاثية 18 ” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”. والممتحنة 10 ” ذلك أمر الله أنزله إليكم” فالقرآن هو أوامر الله تعالى وقوانينه الواجب إتباعها والالتزام بها قولا وعملا سرا وعلانية. ومن يخالفها مجرم يستحق عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة إذا لم يتب توبة صادقة طبقا لشروطها التي ذكرتها سابقا. أما من التزم بها فإن له حياة طيبة والسعادة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة. ومن الآيات الدالة على أن من يخالف أحكام وحدود القرآن مجرم مستحق لعذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة ما لم يتب الحكم المجمل في الكهف 49 ” ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا” هذا الحكم المجمل تفسره وتؤكده أحكام أخرى منها: الكهف 53 “ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا” والزخرف 74-76 “إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه ملبسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين”. فالذي يخالف حدود وأحكام القرآن معرض لعذاب الله تعالى حتما إن لم يتب توبة صادقة. وفي هذه الحالة فإن الله تعالى لم يظلمه بل يعتبر المجرم ظالما لنفسه. والدليل الحجرات 11 ” ومن لم يتب فأولك هم الظالمون”. وتوضح الآية التالية هذه المسألة في السجدة 22 ” و من أظلم  ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ” والجاثية 31 “وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين” فلم يعتبرهم الله تعالى مجرمين إلا لأنهم استكبروا واستهزؤوا بآياته وخالفوها. وأيضا الرحمان 44″ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمين” والأنعام 55 “وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين” والمرسلات 45-46 “ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون” والمطففين 29″ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون” والمعارج 11-18 “يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى” والقيامة 5 “بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ” يعصى و يخالف حدود وأحكام القرآن أمام الله تعالى الذي يعلم ما يفكر فيه ويسمع أقواله ويرى أعماله. فالإجرام يعني أيضا الفجور أي مخالفة حدود القرآن. والدليل عبس 40-42 “وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة” والمدثر 40-47 “في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين”. هذه الأحكام الشرعية التي ذكرتها تبين وتفسر وتؤكد الحكم الشرعي المذكور أعلاه في الكهف 49. فكل من يخالف حدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية من المجرمين المستحقين لعذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة إذا لم يتوبوا توبة نصوحا صادقة مجسدة فعلا في الإيمان الصادق والتقوى حتى الموت. لهذا فالكفار والمشركون والمنافقون وكل المعرضين عن القرآن مجرمون فتوبوا أيها المجرمون. قبل أن ينفذ عليكم حكم الله تعالى.

المثال السابع عشر: السلام على غير المسلم لا يجوز شرعا

هناك حكم مجمل في الأنعام 54 “وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم”. هذا أمر من الله تعالى موجه لرسوله محمد عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه ومن خلاله لكل المسلمين بأن يسلموا على المؤمنين المتقين وأن يخصصوا لهم الأمن والسلام والاحترام. ولكن الحكم الشرعي المفهوم من الأنعام 54 والغير المنطوق فيها وهو أن الله تعالى أمر الرسول وكل المسلمين بأن لا يسلموا على الكفار والمنافقين وكل الظالمين الذين يستهزؤون بالقرآن ويستكبرون عن عبادة الله عز وجل ويكنون العداء والبغضاء لله ولرسوله وللمؤمنين. فلا تجوز معاملتهم بالمودة والرحمة والأمن والاحترام لأنهم أعداء الله تعالى وأعداء المسلمين. والأحكام الشرعية المبينة والمؤكدة والمفسرة لهذا الحكم المجمل في الأنعام 54 منها ما يلي: الرعد 23-24 “والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار” والأعراف 46 ” ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم” والحجر 46 “ادخلوها بسلام آمنين” فالسلام هو السلم والأمن  والأمان والرحمة. ولا حق في السلام إلا للمؤمنين الصالحين. أما الكفار والمنافقون والظالمون أي المخالفون لأحكام وحدود القرآن فلا يستحقون السلام والأمن والرحمة لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى لقوله في الحشر 23 ” هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام”. والجنة هي دار السلام أي دار الرحمة والأمن والدليل يونس 25″ والله يدعو إلى دار السلام”. أي أن من اتبع أوامر الله وحكمه الذي شرعه في القرآن يسكن دار السلام بعد البعث والحساب وهي الجنة ويستحق سلام الله وأمنه ورحمته. والأنعام 127 “لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون”. ودار السلام هي الجنة التي يستحقها المؤمنون الصالحون المتقون. والسلام سلام الله تعالى ومنه سبحانه وتعالى السلام والأمن والرحمة. والدليل يس 58 “سلام قولا من رب رحيم” والأحزاب 44 “تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما” وهود 48 “قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك” والصافات 181 “وسلام على المرسلين”. الله تعالى رفض تحية الكفار والمنافقين والظالمين ومنعهم من دخول دار السلام وهي الجنة بل خصص لهم العذاب الدائم في جهنم ومنعهم من رحمته ومن رؤية ذاته العظيمة في الدنيا والآخرة لقوله تعالى في المطففين 15 “كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون” و آل عمران 77 “لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم و لهم عذاب أليم” الله تعالى يوم الحساب في الآخرة إلى دار السلام أي الجنة بل يهديهم إلى صراط الجحيم. والدليل المائدة 15-16 ” يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام”. و الصافات 23 “فأهدوهم إلى صراط الجحيم بالنسبة لمن أعرض عن القرآن. فمن اتبع حدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت يهديه الله تعالى إلى الصراط المستقيم المؤدى به إلى دار السلام ورحمة الله تعالى وجنته. فإذا قلت أيها المسلم لشخص أو جماعة من الأشخاص السلام عليكم أو صافحتهم بيدك أو بوجهك فإنك قد قلت لهم قولا أو إشارة عليكم سلام الله ورحمته وأمنه وثناؤه. فإذا كان الشخص أو الأشخاص الذين سلمت عليهم من الكفار أو المنافقين والظالمين قد ارتكبت ذنبا يعاقبك الله تعالى عنه. فقد خنت الله تعالى الذي رآك وسمعك وسجل ما فعلت وشهدت عليك أعضاؤك والملائكة الذين يكتبون سيئاتك وحسناتك. فهل تقبل أيها المسلم بأن يسلم أحد على عدوك الذي قتل ابنك أو سرق مالك أو هتك عرضك. طبعا لا تقبل أبدا. لهذا فالله تعالى لا يرضى ولا يقبل أن تسلم أيها المسلم على أعدائه وهم الكفار والمنافقون أو ترد عليم السلام. فلا تسلم على احد قولا أو باليد أو بالمصافحة بالوجه ولا تنظر إليه ولا تتكلم معه إلا إذا علمت أنه من المؤمنين الصادقين. واعلم أن القرآن حرم إقامة الكفار بدار الإسلام لحماية النظام العام الإسلامي من جراثيم الكفر وحماية المسلمين من أعداء الله وأعدائهم الذين يريدون تكفيرهم والسيطرة على مواردهم وخيراتهم. والدليل آل عمران 85 والعمران 19 و الأنفال 39 التوبة 5 و11 و 12. وللمزيد أحيلكم على بحث نشرته بموقعي المذكور بالانترنت حول موضوع: “آيات القرآن التي أسندت الحكم والسلطة للأمة الإسلامية في دار الإسلام”. ولهذا فإن المدلول الحقيقي للنساء 86 “وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ” هذا أمر للمسلمين بأن يردوا التحية والسلام على بعضهم البعض فقط. والسلام رحمة من الله فلا يقال إلا للمسلمين والدليل الانعام 54 “فإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم”. و الفتح 29 “محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”. ولهذا فالحديث الذي ذكر فيه ما يلي: “افشوا السلام” فإنه موجه للمسلمين فيما بينهم فقط لان خطاب الرسول للمسلمين عندما ذكره لهم. لهذا أيها القراء والدعاة والأساتذة الباحثون والعلماء المحترمون وسائر اخواني المسلمين يجب أن لا نفسر آية من القرآن مستقلة بمفردها بل لابد من مقارنتها بكل آيات القرآن الأخرى قبل استنباط حكمها الشرعي لان القرآن يفسر بعضه بعضا. وهذه المقارنة بين كل آيات القرآن تساعد الباحث والمفسر على معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمطلق والمقيد والعام والمخصص له والحكم الشرعي المجمل والأحكام الشرعية المبينة والمفسرة له. وقد حاولت توضيح ذلك من خلال هذه الأمثلة التطبيقية من آيات القٍرآن. واطلب من الله تعالى أن يعلمني علم القرآن وأن يعينني على استنباط الأحكام الشرعية من آياته لكي لا أقول عليه سبحانه وتعالى مالا أعلم ولكي لا أضل الناس.

 

المثال الثامن عشر: العمل بالتاريخ الهجري واجب مفروض شرعا على المسلمين

هناك حكم شرعي مجمل في يونس 5 ” هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق. يفصل الآيات لقوم يعلمون”. جعل الله تعالى القمر وسيلة لحساب الأيام والشهر والسنة بالنسبة للمسلمين. ومن الآيات المبينة والمفسرة والمؤكدة لهذا الحكم المجمل ما يلي: التوبة 36 ” إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم”هذه الآية فرضت حساب الشهور على المسلمين حسب التاريخ الهجري وما في القرآن وجعلته جزءا من فرائض الإسلام.  وهذه الشهور التي أجمعت عليها الأمة الإسلامية منذ عهد الرسول عليه صلاة الله وسلامه هي محرم صفر ربيع الأول ربيع الثاني، جمادى الاولى، جمادى الثانية، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة.  يبدأ الشهر بظهور هلال القمر مغرب أول ليلة تم ينتهي عندما يظهر هلال القمر مرة ثانية مغرب يوم التاسع والعشرين. وإذا لم يظهر ينتهي الشهر بكمال ثلاثين يوما. والدليل البقرة 185 “شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه”. لهذا يحسب الشهر في الإسلام بظهور الهلال. والدليل البقرة 189 “يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج”. فحساب الشهور والسنة يتم في الإسلام طبقا لرؤية هلال القمر. فكفارة الظهار ومنها صيام شهرين متتابعين تحسب بظهور الهلال وليس الشهر الميلادي. والسنة تبتدئ من تاريخ الهجرة النبوية إلى المدينة. وقد مرت عليها حتى الآن ألف وأربعمئة وأربع وثلاثون سنة إلا أربعة شهور تقريبا وتقابل سنة 2013 الميلادية في شهرها الحالي يونيو وشهادة رجلين عدلين لهلال القمر الذي يبدأ الشهر تلزم باقي المسلمين ويعتد بها شرعا. و عدد أيام الأسبوع وهي الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت والأحد ومنها ما هو مذكور في القٍرآن. و مخالفة حساب التاريخ الإسلامي كما حدده القرآن وبينه الرسول عليه صلاة الله وسلامه تعتبر فسقا عن أمر الله تعالى وتترتب عليها ذنوب وسيئات يقابلها عذاب الله عز وجل. ومما يدل على التناقض والنفاق أن كثيرا من البلدان تدعي أنها إسلامية ولكنها تحسب التاريخ بغير الحساب الذي حدده الله تعالى في القرآن. فاحذروا أيها المسلمون في كل مكان وزمان عدم ذكر التاريخ بالشهور الإسلامية القمرية والسنة الإسلامية الهجرية. فذلك فسق وعصيان لأمر الله تعالى يترتب عليه عذابه عز وجل. ومن مظاهر الردة عن دين الله الحق الإسلام أن كثيرا من العرب يحتفلون مع الكفار بما يسمونه “بابانوال” يوم 25 دجنبر كل سنة ميلادية، ويعتبرونه رمز المسيح عيسى بن مريم الذي اتخذوه ربا لهم إشراكا بالله تعالى. ويحتفلون بكل الوسائل المخالفة لشرع الله القرآن حيث يشربون الخمور المحرمة ويتبرجون ويتعاطون الزنا والفحشاء والسرقة ليلة 25 دجنبر وليلة 31 من نفس الشهر. و الغريب أن هذه الاحتفالات والفحشاء والمنكر تنقلها الفضائيات مباشرة في مختلف أنحاء العالم. فالاحتفال بميلاد عيسى بن مريم واعتباره الاها وربا شرك بالله تعالى ولا يجوز شرعا. ورغم ذلك كثير من العرب في كل مكان أعرضوا عن القرآن وقلدوا المسيحيين المشركين في هذه الاحتفالات وبنفس أساليب ووسائل الفساد ومظاهر الشرك بالله فالاحتفال بميلاد عيسى بن مريم عليه السلام يجب أن يكون في إطار اعتباره رسول الله وعدم الشرك بالله واحترام حدود وأحكام القرآن الذي أنزله الله تعالى لكافة البشر ومنهم اليهود والنصارى. فعيسى بن مريم ليس ربا ولا إلاها. فهو بشر خلقه الله تعالى. والأدلة على أنه بشر وليس ربا قاطعة ومطلقة. لو كان إلاها وربا لما صلبه غيره وقتله كما ادعى المسيحيون ليس هناك شيء خلقه المسيح في هذا الكون إذا فهو ليس ربا. من صفات الله التصرف الدائم والوجود والاستجابة للناس وهذه من صفات الله تعالى الذي خلق المسيح. والواقع أكد ذاته فلاحظوا الآيات القرآنية وفي الكون والنفس البشرية لتتأكدوا من وجود الله. وأن المسيح ليس ربا ولا إلاها. ومن مظاهر الردة في الإسلام أن كثيرا من العرب لا يحتفلون ببداية السنة الهجرية ليلة الفاتح من شهر محرم كل سنة ولا يحركون ساكنا ولا يعترفون بها ولا يذكرون التاريخ الهجري في وثائقهم ومراسلاتهم ومواعيدهم. ولا يحتفلون بذكرى ميلاد رسول الله تعالى محمد بن عبد الله عليه وعلى كل الرسل صلاة وسلاه وهي يوم 12 ربيع الأول من كل سنة. فليس في هذا الاحتفال بدعة كما يدعي البعض بل الاحتفال بذكرى ميلاد محمد بن عبد الله رسول الله تعالى واجب لتكريمه والإحسان إليه لأنه تحمل المشقة والعذاب لتبليغ القرآن للناس خلال ثلاثة وعشرين سنة وقاد حروبا كثيرة للدفاع عن دين الله الإسلام وأقام دولة إسلامية قوية طبق فيها القرآن. المائدة 12 ” لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات..” وقد أثنى عليه الله تعالى ومدحه وجعله من المبشرين بالجنة التوبة 88-89 ” لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ”  والأعراف 157 “فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” والقلم 4 “وأنك لعلى خلق عظيم” والكوثر “إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وإنحر إن شانئك هو الأبثر”. إن الذين يرفضون التاريخ الهجري الإسلامي عمدا ويرفضون الاحتفال بالسنة الهجرية ليلة ويوم فاتح محرم ويرفضون الاحتفال بذكرى ميلاد رسول الإسلام محمد بن عبد الله عليه وعلى كل الرسل سلام الله وصلاته منافقون يكتمون في باطنهم العداء لله تعالى ولرسوله وللمسلمين، فاحذروهم أيها المؤمنون الصالحون المتقون وتضامنوا وتعاونوا فيما بينكم على البر والتقوى وفرض إقامة المجتمع الإسلامي الذي يكون فيه المسلمون إخوة ويطبق فيه القرآن في صيغة قوانين ويكون الحكم للأمة  الإسلامية أو الشعب المسلم الذي ينتخب أولي الأمر والحكام المؤمنين الصالحين المتقين والمؤهلين لممارسة السلطة تحت مراقبة المسلمين.

المثال التاسع عشر: دين الله تعالى الحق هو الإسلام وغيره باطل وكفر

هناك حكم شرعي مجمل في سورة الكافرون 1-6 قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما اعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي ديني”. أكد الله تعالى بأن هناك الدين الحقيقي المشروع وهو الذي يعبد فيه الله تعالى وحده، أما الأديان التي يعبد فيها غير الله فإنها غير مشروعة وأديان كفر وضعها مؤسسوها لتحقيق مصالح اجتماعية واقتصادية وسياسية وللقضاء على الإسلام الذي يصدون الناس عنه حقدا وحسدا. ولأنهم رفضوا إتباع القرآن وفضلوا إتباع أهوائهم ورغباتهم وشهواتهم الغير المشروعة. ومن هذه الأديان الوضعية الغير المشروعة اليهودية والمسيحية والبودية والهندوسية وغيرها والتي يعبد فيها غير الله تعالى. فسورة الكافرون براءة الرسول محمد من الشرك الذي فيه الكفار. فهو رفض دينهم وتبرأ منه. وهي إثبات لشرك الكفار لأنهم يعبدون غير الله تعالى. وهي دليل على أن الله تعالى هو الواجبة عبادته دون سواه طبقا لحدود القرآن وأحكامه الشرعية. وتؤيدها الزمر 11-12 ” قل إني أمرت أن اعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين” سورة الكافرون ليست إقرارا من الله تعالى بمشروعية  أديان الكفار وإنما هي دليل على أن الدين الحق المشروع هو الإسلام الذي يعبد فيه الله تعالى وحده ودليل على أن الكفار وضعوا أديانا خاصة بهم يعبدون فيها غير الله تعالى. وسوف أبين بعض الأحكام الشرعية المبينة والمؤكدة للحكم الشرعي المجمل الوارد في سورة الكافرون لتوضيحه. ومنها ما يلي: يونس 104 “قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله. ولكن اعبد الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين”. آل عمران 19 “إن الدين عند الله الإسلام” وآل عمران 85 “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”. ويوسف 40 “إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه”.لا يقبل الله تعالى أي دين غير الإسلام الذي يعبد فيه الله تعالى وحده. وكل دين غير الإسلام كفر وغير مشروع. ولهذا من لم يؤمن بالقرآن ولم يلتزم بأحكامه وحدوده ومنها عبادة الله وحده كافر وليس مسلما. والدليل محمد 2-3 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم” والمائدة 3″ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” والنساء 125 “ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن”. آل عمران20 “وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا” كل دين لا يعبد فيه الله تعالى دين كفر ولم يأذن به الله تعالى بل حرمه. والدليل الشورى 21 “أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. ولولى كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم”. فكل الشرائع السماوية أي الكتب التي أنزلها الله على رسله كلهم دعت الناس إلى عبادة الله تعالى وحده وهو دين الله الحق الإسلام. والأدلة كثيرة منها الشورى 13 “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الذين ولا تتفرقوا فيه”. والبقرة 133 “قالوا نعبد إلاهك وإله آبائك ابراهيم واسماعيل وإسحاق إلاها واحداونحن له مسلمون” والقصص 53 “إنا كنا من قبله مسلمين” والأنبياء 25 ” وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ” يس 60 – 61 والنساء 36 الزخرف 45. والله تعالى أكد لنا أنه خلق الإنسان والجن لعبادته وحده والدليل الذاريات 56 ” وما خلقت الجنس والإنس إلا ليعبدوني” والكهف 110 “من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك فمن بعبادة ربه أحدا”.وعبادة الله تعالى  هي الإسلام لله وحده والخضوع له والخشوع له وحده وطاعته وتنفيذ أوامره الواردة في القرآن واتباع حدوده قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. و من شروط الإخلاص والصدق في عبادة الله تعالى محبته الشديدة أكثر من غيره ولو الرسل. والدليل البقرة 165 “والذين آمنوا أشد حبا لله” والتوبة 24 ” قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره”. وعبادة الله تعالى لا تعني العبادة الشعائرية مثل الصلاة والزكاة والصدقة والصوم والحج فقط بل تعني بالإضافة إلى ذلك العبادة التعاملية وهي الالتزام بكل أحكام وحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. فكل قول وتفكير وعمل يجب أن يكون مطابقا لحدود الله تعالى في القرآن. وعبادة الله تعالى تفرض كذلك على المسلم العمل الحلال لكسب وسائل العيش لأن القرآن يأمر بذلك في عدة آيات منها الجمعة 10 “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض واتبعوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” والتوبة 105 “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” والمزمل 20 “يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله” والأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” ولا يمكن إعداد قوة الدفاع عن الإسلام والمسلمين إلا بالعمل الصالح المنتج الحلال في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتقنية. ومن الأحكام المبينة لسورة الكافرون والمؤكدة أن الإسلام هو دين الحق الذي شرعه الله للناس. هناك الفتح 28 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله” والصف 9 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” والتوبة 33 “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” والأنفال 39 “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”. هذا دليل شرعي واضح على أن في دار الإسلام لا يجوز شرعا أن يكون إلا دين الله الحق الإسلام. ولا يجوز أن تكون فيها أديان الكفار ومؤسساتهم وكنائسهم فغير المسلمين لا يمارسون أديانهم في دار الإسلام لحماية النظام الإسلامي ودين الله الحق من الكفار والمنافقين. والتوبة 5 “فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم”. والتوبة 11 “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين” و الفتح 16 “تقاتلونهم أو يسلمون” و التوبة 6 ” وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه “. و المقصود من عبارة حتى يسمع كلام الله هو حتى يؤمن بالقرآن و يعمل به. لهذا فالقرآن يحرم إقامة غير المسلم في دار الإسلام لأن غير المسلم لا أمان له في دار الإسلام شرعا. و إذا آمن الكفار واعتنقوا دين الله الحق الإسلام وجسدوا إيمانهم بصدق في العمل الصالح والتقوى يصبحون إخوة للمسلمين ولهم الحق في الإقامة بدار الإسلام ويكونون من الأمة الإسلامية. فالنصارى واليهود أسسوا أديانا خاصة بهم ومنهم علماؤهم الذين حرفوا التوراة والإنجيل لتحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولمعارضة دين الله الحق الإسلام. وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك في القرآن. ومن الآيات التي أكدت ذلك التوبة 30-31 “وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم. وما أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون” فاليهود ادعوا أن عزير بن الله والنصارى ادعوا ان المسيح هو الله و اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى الحق الذي هو مستوى على العرش فوق السماء السابعة ويدبر أمور الكون الذي خلقه وكل ما فيه وتؤكد ذلك. آل عمران 80 “ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون” وقضاء الله عز وجل وقدره مطلق عادل يتصرف في الكون الذي يملكه كيف يشاء. فعودوا أيها اليهود والنصارى إلى رشدكم واستعملوا عقولكم لتتأكدوا من وجود الله تعالى ومن صدق القرآن وتوبوا إلى الله واعتنقوا دين الله الحق الإسلام والتزموا بأحكام وحدود القرآن الذي أنزله الله لكم مثل كافة الناس والأدلة على ذلك منها ما يلي: المائدة 15 “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين”. فالله تعالى هو الذي انزل التوراة والانجيل والشرائع السابقة. وهو الذي انزل القرآن ونسخ بقضائه وقدره التوراة والانجيل بالقرآن. والمائدة 48 “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يده من الكتاب ومهيمنا عليه” فهذا الحكم الشرعي في المائدة 48 أكد أن القرآن من حيث الإلزام فوق التوراة والإنجيل والكتب السابقة كلها لأنه نسخها بأمر الله الذي أنزلها. وهذا ما أكدته صراحة الأعراف 157 “الدين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي، يجدونه مكتوبا عندهم في الثوراة والإنجيل” ومن الأدلة أيضا على ان أديان الكفار محرمة وأنهم ملزمون بإتباع القرآن واعتناق دين الله الحق الإسلام هناك سبأ 28 “وما أرسلناك إلا كافة للناس” والأعراف 158 “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” والزمر 41 “إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق”. وال عمران 138 “هذا بيان للناس” والنساء 79 “وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيد” ومحمد 2-3 “والذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم”. فدين الإسلام هو الدين المشروع الذي شرعه الله تعالى لكل إنسان في الكون وشريعة الإسلام هي القرآن. فمن يستطيع أن يثبت أن أهل الكتاب واليهود والنصارى ليسوا من البشر، فيما أن هذا الإثبات مستحيل لأنهم فعلا بشر مثل كافة الناس يشمون هواء الله تعالى ويعيشون بالطعام الذي خلق الله مصادره وموارده ويشربون ماء الله وهو مصدر حياتهم. لهذا فإنهم ملزمون باتباع القرآن والعمل به واعتناق دين الله الحق الإسلام. ورغم هذه الحقائق المطلقة فإن أعداء الإسلام يقودون حملات الدعاية الكاذبة المشركة بالله تعالى حيث يدعون أن المسيح بن مريم هو الله والرب وينادون بعبادة الصليب والبابا والرهبان والأحبار. وقد شاهدت فعلا وتتبعت محاضرات عبر قنوات تلفزية وفضائيات هدفها تضليل الناس والكذب عليهم بادعاءات واهية لا أساس لها من الصحة حيث يدعون أن المسيح بن مريم رب يتصرف في الكون رغم غيابه وأنه يغفر لهم الذنوب. وهذا كذب لان المسيح بن مريم رسول من رسل الله تعالى بلغ رسالة الإنجيل ولما حل أجل موته مات كسائر الأموات تم بعثه الله من قبره ورفعه الملكان المكلفان من الله إلى الجنة بالسماوات. وقد شاهدت أيضا في نشرات الأخبار بالقنوات التلفزية ضباط الشرطة القضائية وهم يعتقلون أشخاصا متلبسين بالدعاية للمسيحية في أوساط الشباب المسلم، ويوزعون نسخا من الانجليل المزور.

المثال العشرون: حياة الإنسان بالدنيا مؤقتة وعمله فيها يحدد حتما مصيره بالآخرة     

و الحكم المجمل في سورة يونس 7-8 “إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون”. هذا الحكم الشرعي المجمل سوف أفسره بالأحكام الشرعية الأخرى المبينة والمفسرة والمؤكدة له. فمدلول هذا الحكم في يونس 7-8. أن الذين لا يؤمنون بالله تعالى وبلقائه بعد البعث في الآخرة واكتفوا بالعمل لمتاع الحياة الدنيا وإتباع الرغبات بكل الوسائل والطرق وأعرضوا عن القرآن فإن مصيرهم جهنم جزاء لهم عن فسقهم وكفرهم ومخالفتهم لأحكام وحدود القرآن. فالذي فضل متاع الدنيا وزينتها واتبع هواه ولم يعمل بأحكام وحدود القرآن ولم يعبد الله تعالى مصيره جهنم إذا لم يتب عن قريب وقبل الشعور بالموت. والأحكام الشرعية المؤكدة والمفسرة والمبينة لسورة يونس 7-8 منها ما يلي:

أ- متاع الدنيا مؤقت ومتاع الآخرة أحسن ودائم.

إن وجود الإنسان في أرض الدنيا على سبيل الاستخلاف المؤقت ولأن كل إنسان ذائق الموت حتما ويبعث تم يرفع إلى أرض الجنة وجهنم في السماوات ليحاسب عن أعماله التي عملها في الدنيا وينال الجزاء عنها إما بالجنة إن كانت مطابقة لحدود القرآن أو جهنم إن كانت مخالفة لها. ولاداعي لذكر الآيات المؤكدة شرعا لهذه الحقيقة ولكن أحيلكم على بحث نشرته في موقعي المذكور بالأنترنت  حول موضوع “المصير الحتمي لكل إنسان بعد موته كما بينه الله تعالى في القرآن”. الحياة الدنيا مؤقتة تنتهي بالموت حتما بالنسبة لكل إنسان أو بقيام الساعة الختامية الكبرى حيث يموت كل الناس في آن واحد. فترة الحياة الدنيا مؤقتة وهي ابتلاء وامتحان واختبار لكل إنسان حيث تسجل أعماله وأقواله في كتاب أعماله منذ سن التكليف حتى الموت وينال المبعوث الجنة في الآخرة إذا كانت أعماله وأقواله مطابقة لحدود القرآن أو جهنم إذا كانت أقواله واعماله مخالفة لحدود القرآن. ومما يدل على أن الحياة الدنيا المؤقتة مرحلة ابتلاء و امتحان الحديد 25 ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ” والملك 1-2 “تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” وهود 7 ” وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا”. وأكد الله تعالى بأن متاع الآخرة خير وأحسن من متاع الدنيا. والدليل الشورى 36 “فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للدين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون” والقصص 60 “وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون” و يوسف 109  “ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون”والقصص 79-80 “فخرج على قومه في زينته. قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا. ولا يلقاها إلا الصابرون”. والأعراف 169 “والدار الآخرة خير للذين يتقون أقلا تعقلون”و الأعلى 16-17 و النازعات 37-41. فعلى الإنسان استعمال عقله للتأكد من كون متاع الجنة أحسن من متاع الدنيا لأن متاع الدنيا مهما بلغ كما وكيف مؤقت وزائل إما يموت الإنسان عندما يحل أجله المحتوم أو بقيام الساعة الختامية الكبرى حيث يفنى العالم كله وما فيه. أما متاع الجنة فإنه دائم لأن أصحابها والمستحقين لها يعيشون فيها حياة دائمة في السعادة ورحمة الله تعالى لهم فيها كل ما يشتهون من أكل وشراب وجنان ويتمتعون بأزواجهم و ذرياتهم إن كانوا يستحقون هم أيضا الجنة. وفي حالة العكس يزوجهم الله تعالى بأزواج مطهرة وحور العين. أما الكفار المنافقون والذين خفت موازينهم يوم الحساب مهما تمتعوا في الدنيا كما وكيفا فإنهم  بعد البعث في الآخرة يعيشون في عذاب الله تعالى بصفة دائمة وخالدة في جهنم مربوطين في السلاسل والأغلال ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع كما ذكر الله تعالى في سورة الغاشية. وأهل الجنة يفوزون بأعظم متاع وهو رؤية ذات الله العظيمة والكلام معه مباشرة دون حجاب، والدليل القيامة 22 “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”. أما أهل جهنم فإنهم لا يرون الله تعالى أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة. والدليل المطففين 15 ” كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون”. أهل الجنة لهم حياة حقيقية سعيدة وهم أحرار ينعمون في رزق الله تعالى  في الجنة ويجمعهم الله تعالى مع المستحقين للجنة من أزواجهم وآبائهم وإخوانهم وذرياتهم. هذه الحياة أبدية وخالدة والدليل الصافات 58-59 “أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين” بينما أصحاب جهنم في العذاب الدائم سجناء ليست لهم حرية وهم ليسوا بأحياء ولا أموات والدليل إبراهيم 17 “ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ” الأعلى 12-13 “الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى” فأهل جهنم في العذاب الدائم الذي يكاد يؤدي بهم إلى الموت. ولكن لا يموتون بأمر الله تعالى وقضائه وقدره ليبقوا في العذاب الدائم.  فمتاع الدنيا لا يساوي شيئا بالنسبة لمتاع الآخرة. فالأول مؤقت يفنى يموت الإنسان الذي يترك كل ما حققه في حياته. أما متاع الآخرة فإنه دائم وأحسن كما وكيفا. والدليل الكهف 45 “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا”. أكد الله تعالى بأن متاع الدنيا مؤقت وزائل وأنه قادر على إتلافه في أية لحظة. فالدائم هو متاع الآخرة بالنسبة للمتقين الصالحين المستحقين لها بأعمالهم التي عملوها في الدنيا. وهذه الآية تؤكدها “إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون”. فالإنسان عندما يحل أجل موته يترك كل متاع الدنيا. ولا ينفعه يوم الحساب بل أعماله التي عملها هل كانت مطابقة لحدود القرآن أم لا، فينال الجنة إن كانت أعماله مطابقة لحدود القرآن وجهنم في حالة العكس.

ب- من اهتم بمتاع الدنيا وأعرض عن القرآن مصيره عذاب الله في الدنيا والآخرة

كل إنسان له الحق في متاع الدنيا بشرط أن يعمل في الحلال للكسب من فضل الله تعالى ونعمه وإحسانه لأن الله استخلف الإنسان في الأرض لعبادته و لإعمارها بالعمل الحلال المنتج والبناء. الله تعالى خلق كل ما في الدنيا والآخرة لصالح الإنسان. لكن لا يتمتع بمتاع الآخرة الخالدة والدائم إلا المتقون المؤمنون الصالحون الذين التزموا بحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. فسواء اهتم الإنسان بمتاع الدنيا أو لم يهتم به وسواء كان غنيا أو فقيرا فإنه إذا لم يعمل لمتاع الآخرة أي إذا لم يلتزم بحدود وأحكام القرآن حتى الموت ولم يعبد الله تعالى فإن مصيره جهنم إذا لم يتب توبة نصوحا صادقة، والدليل البقرة 38-39 “فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون” و الأعراف 35-36 ” يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ” والزمر 55 “و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون”. لهذا لا يجوز للإنسان الاهتمام بمتاع الدنيا وزينتها وإغفال العمل لمتاع الآخرة الدائم في الجنة. فيجب أن يكون عمله لمتاع الدنيا موازيا لعمله لمتاع الآخرة أي أنه يعمل للدنيا في إطار حدود وأحكام القرآن. ومن ذلك أنه لا يعمل إلا العمل الحلال الصالح الذي ليس فيه سيئات ومخالفة لحدود القرآن. وأن يتجنب الحرام ويؤدي الفرائض التي فرضها الله تعالى كأداء الزكاة المستحقة للمسلمين المستحقين لها و أداء الصدقات أيضا ويؤدي الصلوات في أوقاتها وباقي فرائض الإسلام ومنها العمل الحلال لكسب العيش لقوله تعالى في الجمعة 10 “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض واتبعوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” والأنفال 60 “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..” والتوبة 105 “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” و القصص 77 ” وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك”. إن مساهمة كل مسلم في العمل الحلال والإنتاج واجب شرعي حسب استطاعته العقلية والصحية والعلمية. و الدليل هود 61 “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” وضرورة الدفاع عن دين الله تعالى الحق الإسلام وعن المسلمين في مواجهة أعداء الإسلام تفرض على كل مسلم العمل الحلال المنتج حسب استطاعته. و لكن الذي يهتم فقط بمتاع الدنيا دون الالتزام بحدود القرآن فإنه قد خسر في امتحان واختبار الحياة الدنيا المؤقتة. فلا ينال رحمة الله وسعادة الجنة بل مصيره عذاب الله الدائم في جهنم بعد البعث. والأدلة على ذلك كثيرة منها ما يلي: الأعراف 51 ” الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون “. فاعمل أيها المسلم لمتاع الدنيا لأنه مفروض عليك ولكن في إطار الالتزام بأحكام وحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية فالدنيا مزرعة للآخرة. ومن لا يزرع فيها لا يحصد شيئا في الآخرة. بل يكون مصيره جهنم. والزراعة في الدنيا أقصد منها العمل الصالح والتقوى وفعل الخيرات والحسنات التي تنفع في ميزان الأعمال. ومن الأدلة أيضا النازعات 37-41 “فأما من طغى وأثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى”. وسبأ 37-38 “وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات أمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون” والمنافقون 9 ” يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون” والتغابن 15 “إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم” والمجادلة 17 “لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” و آل عمران 10 ” إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هو وقود النار” وال عمران 116 “إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” و التوبة 85 ” ولا تعجبك أمولاهم و أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون” و الشعراء 88-89 “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”  والقلب السليم هو القلب المؤمن الصادق الذي لم يمنع العقل من التحكم في الجوارح والقول والعمل بما يرضى الله وطاعته والالتزام بحدود القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. بخلاف القلب المريض وهو المتصلب والمريض بالكفر والشك والتحكم في العقل حيث يمنعه من السيطرة على الجوارح وعلى النفس الأمارة بالسوء وذلك بالضغط الدموي والأعصاب والانفعال والعواطف. هذه الأحكام الشرعية في هذه الآيات تؤكد ما جاء في الحكم المجمل سورة يونس 7-8. فكل من أعرض عن القرآن لا ينفعه متاع الدنيا الذي تمتع به أبدا بل مصيره جهنم حتما إن لم يتب توبة صادقة وبدون رجعة والتزم بشروط التوبة. ومن الأدلة أيضا البقرة 86 “اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون” وتؤيدها النحل 107 “ذلك بأنهم استحيوا الحياة الدنيا على الآخرة وان الله لا يهدي القوم الكافرين” والنجم 29 “فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا” والمسد “تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ” والهمزة “ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تضطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة ” والليل 5-11 ” فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغنى عنه ماله إذا تردى”. فالعمل لمتاع الدنيا دون الالتزام بحدود القرآن وأحكامه لا ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ولا يمنع عنه عذاب الله تعالى. وتؤيد ذلك أيضا ابراهيم 2-3 “ويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد” والبقرة 86 “اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون” والإسراء 19 “ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا” و لقمان 33 “يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن عن ولده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور” الله تعالى من خلال هذه الآيات أكد أنه يعاقب الإنسان إذا أعرض عن القرآن ويجازيه برحمته وجنته إذا التزم به في حياة الدنيا. ولكن لا يعاقبه على العمل لمتاع الدنيا لأنه خلق زينة الدنيا ومتاعها لصالح كل بني آدم. والدليل الأعراف 32 – المائدة 88 – الكهف 7 – الأحقاف 20 “ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون” أكد الله تعالى في هذه الآية انه لا يعاقب على الاستمتاع بمتاع الدنيا وزينتها في الحلال ولكن يعاقب على مخالفة أحكام وحدود القرآن. وهذا الحكم تؤيده آيات أخرى منها يونس70 “متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون”. لهذا قرر الله تعالى بأن رحمته وجنته لا ينالها إلا المتقون الذين التزموا بحدود واحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت. ومن الأدلة الأعراف 156 “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون” والرعد 18 “للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد”. فالاستجابة لله هي طاعته وعبادته والالتزام بحدود القرآن. وعدم الاستجابة لله هي عصيانه ومخالفة حدود القرآن. فالاستجابة تقابلها رحمة الله وجنته وهي الحسنى. وعدم الاستجابة يقابلها عذاب الله تعالى وجهنم. لهذا قال الله تعالى في يونس 62-64 “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم”. وأيضا في الأحقاف 13-14 “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا قلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولائك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون”. وهذا قانون الله تعالى وسننه في الكون الذي خلقه ويملكه ويملك كل ما خلق فيه. فالإنسان الذي يقضي حياته المؤقتة بالدنيا بدون استجابة لله وبدون تقوى وبدون عبادة الله تعالى يعرض نفسه للهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة ولو تمتع بمتاع الدنيا المؤقت فإنه يخسر متاع الآخرة الأحسن والدائم. وأختم هذه النقطة بالملاحظة التالية: تجب عبادة الله تعالى والالتزام بحدود وأحكام القرآن كيفما كانت  وضعية الإنسان الاقتصادية وموارد العيش ولو كان الإنسان فقيرا او غنيا يجب عليه أن يحب الله تعالى بصدق وأن يعبده ويستجيب له بصدق ودون طمع في المال أو غيره ودون انتظار استجابة الله تعالى لدعائه او عدم استجابته. والدليل الحج 11 “ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين” وكذلك البقرة 155 ” ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ” و آل عمران 144 “ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين” فالإنسان إذا أطاع الله تعالى وعبده والتزم بحدود وأحكام القرآن فإنه يحقق الخير لنفسه بالفوز برحمة الله وجنته. فلا ينفع الله شيئا ولا يضره شيئا. والأدلة منها: العنكبوت 6 ” ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ” و المائدة 105 ” لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ” وآل عمران 176 ” ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم” و آل عمران 97 ” ومن كفر فإن الله غني عن العالمين” وابراهيم 8 “وقال موسى إن تكفروا انتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد” و فاطر 15 ” ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ” والله تعالى قادر على استبدال كافة البشر بمخلوقات أخرى تعبده بإخلاص والدليل فاطر 16 ” إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ” و المائدة 17 ” قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا “.

المثال : الواحد والعشرون: مفهوم الهداية في القرآن

هناك حكم مجمل في البقرة 38-39 ” فإما يآتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”. فالحكم المجمل يكون مبهما أي غير واضح تماما ولكن توضحه وتؤكده وتفسره أحكام شرعية أخرى في آيات أخرى من القرآن. ولهذا سأبين الأحكام الشرعية المبينة والمفسرة للحكم المجمل والمبهم في البقرة 38-39 طبقا للنقط التالية:

أ- تعريف الهداية

الهدى أو الهداية إرشاد وتوجيه الإنسان إلى الخير والفلاح وما هو سديد ونافع سواء بالقول والنصيحة فقط أو بالقول والعمل والإعانة لبلوغ الهدف وتحقيق الخير فعلا. فهداية الارشاد والنصح مثلا إذا طلب منك تائه يجهل الطريق المؤدي إلى السوق العمومي فبينت له الممر الذي يوصله إليه وذهب وحده فاتبع نصيحتك فوصل إلى هدفه وهو السوق ومثلا طلب منك مريض أن تبين له طريق المستشفى ولكنك حملته في سيارتك فنقلته إلى المستشفى رأفة به. فهذه  هداية إعانة وتمكين. فالأولى اختيارية لأن الرجل اهتدى  بنسفة إلى السوق باتباع النصائح. والثانية هداية إجبارية لأن المريض أرغم على الدخول إلى المستشفى من طرف الذي نقله إليه. وفي القرآن دليل يؤكد هداية الارشاد  وتوضيح الطريق المؤدي إلى الهدف المنشود. ومن ذلك الأنعام 97″ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون” والنحل 16″وبالنجوم هم يهتدون” فالنجوم ترشد وتوجه الناس في ظلمات الليل إلى الجهة التي يريدون التوجه إليها. وهذه الآية تؤيدها وتؤكدها النمل 63 ” أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى عما يشركون” الله تعالى قادر على إنقاذ التائهين في البر والبحر اثناء الظلام حيث يوجههم بقدرته وحكمته و أسبابه إلى سبيل النجاة وطريق الهدف الذي يقصدونه . وكذلك الليل 5-11 ” فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسينسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى) والكهف 24 ” و قل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا” وفاطر 2″ ما يفتح الله للناس من  رحمة  فلا ممسك لها وما يمسك  فلا مرسل له من بعده  وهو العزيز الحكيم.”ومن الآيات التي تفسر الهدى والهداية سورة طه 10 ” إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقيس أو أجد على النار هدى” هذا قول الله عز وجل على لسان رسوله موسى عليه وعلى كل الرسل  صلاة الله وسلامه.فلما رآى الضوء في السماء حسبه نارا. وهذا الضوء أزال الظلام أمامه فبين له الطريق والهدف الذي يريد الوصول إليه.

    بعد هذا التعريف للهدى بصفة عامة أبين مفهومه في القرآن. الله تعالى خلق البشر واستخلفهم  في أرض الدنيا لإعمارها ولعبادته في إطار نظام الاستخلاف وهو الشرع الذي نزله للناس  عبر مختلف المراحل حسب قضائه وقدره المطلق العادل. وجعل الله تعالى الحياة الدنيا مرحلة ابتلاء وامتحان واختبار للناس مادته الشرائع المنزلة منذ رسول الله نوح إلى رسوله محمد عليهما وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه. فكل شريعة هدى الله تعالى المنزل على رسوله للناس. وخاتم هذه الشرائع وناسخها القرآن المنزل من الله عز وجل لكافة الناس في العالم. لهذا قال تعالى في البقرة 38-39 ” فإما يأتينكم من هدى فمن  تبع  هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” فالهدى الذي يأتي من الله تعالى هو شرعه وكتابه الذي شرعه للناس وفرض عليهم اتباع أحكامه  وحدوده وخصص الجزاء لمن اتبعه السعادة في الدنيا والجنة في الآخرة ولمن يعرض عنه ويخالفه العذاب في الدنيا وجهنم في الآخرة. فمن اتبع هدى الله وهو شرعه يعتبر مهتديا بهدى الله وهدايته لأن شرع الله هداية وهدى. فالقرآن هدى الله وهدايته لأنه يجعل من اتبعه في صراط وسبيل وطريق يؤدي به حتما إلى العودة عند الله تعالى ولقائه والنظر إلى ذاته العظيمة والكلام المباشر معه والحياة الدائمة في سعادة جنته. أما الذي يعرض عن القرآن ويخالف حدوده وأحكامه فإنه يكون في ضلالة بمعنى يخرج من صراط وسبيل وطريق العودة إلى الله تعالى ولقائه والحياة  في جنته. ويكون حتما إذا لم يتب في صراط وسبيل الضلالة وهو المؤدي إلى عذاب الله تعالى في الدنيا  وجهنم بالآخرة. والأيات والأحكام الشرعية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة وأقتصر على أمثلة منها: سورة الزلزلة ” إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها و قال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ  يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” و سورة القارعة ” القارعة ما القارعة  يوم يكون الناس كالفراش  المبتوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهيه نار حامية” و النازعات 37-41 ” فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المآوى” و آل عمران 20 ” وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم  فإن أسلموا فقد اهتدوا” ومريم 85-86 ” يوم نحشر المتقين إلى الرحمان و فدا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا” الله تعالى يبعث الموتى ويحاسبهم عن أعمالهم التي عملوها في الدنيا هل كانت مطابقة لأحكام وحدود هداه وهو القرآن أم مخالفة لها. و الدليل الغاشية 25-26 “إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم” و الجاثية 28-29 ” اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون ” الإسراء 13 “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ” و الإسراء 14 ” اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ” إذن فهدى الله هو القرآن و من اتبعه يكون مهتديا وغير ضال على طريق وصراط وسبيل الحق المؤدي بعد البعث إلى لقاء الله تعالى والحياة الدائمة في سعادة الجنة. كل شرائع الله تعالى المنزلة  على رسله هدى الله يهدي ويوجه من اتبعه إلى لقاء الله تعالى والحياة السعيدة في الجنة والقرآن  نسخ به الله تعالى كل الشرائع السابقة ومنها الثوراة والإنجيل. و الدليل التغابن 6 ” ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا ” و الأعراف 154″ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون” ويتعلق الأمر بكتاب الله الثوراة قبل أن يزورها الكفار. و الأنعام 91 “قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس” فكل شرائع الله تعالى هداه وختامها القرآن صراط الله المستقيم لأنه يجعل من اتبعه على الهدى الذي يؤدي به إلى لقاء الله وهو الحق وغيره باطل ومن اتبع الحق يكون مهتديا وفي صراط  الجنة ومن خالف شرع الله يكون على الباطل والضلال في صراط جهنم. يقابل الهدى الضلال فمن ليس على الهدى الرباني أي من لم يتبع القرآن فإنه  على الضلال أي الباطل والخسارة وهو خارج الصراط المستقيم  الذي يؤدي إلى الله تعالى والجنة فهو على صراط آخر أي صراط جهنم وعذاب الله عز وجل والدليل النساء 136 “ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلال بعيدا” و الدليل يوسف 30 ” وقال نسوة في المدينة إمرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين” أي على باطل وخطأ وليست  على حق لأنها أرادت خيانة زوجها. فالقرآن حكمة الله تعالى وهذاه لأنه بين الحلال والحرام وما ينفع الناس وما يضرهم ولا يشقى من اتبعه، والأدلة المؤكدة لذلك منها: المائدة 15-16 “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبيل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم”. و النجم 23 ” إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ” وهو شرع الله تعالى وكتابه، والبقرة 2 ” ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين” والنمل 1-2 ” طس تلك آيات القرأن وكتاب مبين، هدى وبشرى للمؤمنين ” والنمل 77 ” وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين” و الإسراء 9 ” إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ” وآل عمران 138″ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ” والفتح 28 ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ” فمن أسلم واتبع القرآن مهتدي و آل عمران  20 ” وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا ” وهذه الآية مكررة ومؤكدة  في الصف 9. والأعراف 52″ ولقد جئناكم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون” والبقرة 185″ شهر رمضان  الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” وفصلت 44″ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء” والسجدة 2-3 “تنزيل الكتاب  لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتندر قوما ما آتاهم  من نذير من قبلك لعلهم  يهتدون”. فالقرآن هدى الله تعالى ومن اتبعه والتزم بحدوده وأحكامه يكون مهتديا وعلى الهداية  أي في الطريق المستقيم المؤدي إلى لقاء  الله عز وجل والحياة السعيدة الدائمة في الجنة، وسبأ 6 ” ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط  العزيز الحميد” والأحقاف 30 ” إنا سمعنا كتابا أنزل من  بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ” ويتعلق الأمر بالقرآن الذي استمع إليه  الجن فآمنوا به. و الأنعام 153 ” وإن هذا صراطي مستقيما  فاتبعوه  ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” وسبأ 32 قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين” والهدى الذي جاءهم كتاب الله. فالإهتداء إلى صراط  المستقيم  هو اتباع هدى الله وهو القرآن. ومن  اتبعه يفوز بلقاء الله تعالى وجنته. والدليل الأحزاب 44″ تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما” و القيامة 22-23 “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة” وسبأ 37 ومن الأدلة  كذلك لقمان 2-5 “تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك  هم المفلحون”.

ب: الهداية الاختيارية للإنسان في الدنيا فقط والهداية الإجبارية لله في الدنيا والأخرة

هناك هداية اختيارية  وهي اتباع الصراط المستقيم أي الالتزام  بحدود وأحكام القرآن عن طواعية  واختيار  وإيمان صادق  من طرف المؤمن الصالح الصادق المتقي في الدنيا. وهناك الهداية الإجبارية في الدنيا والأخرة وهي من قضاء الله عز وجل وقدره وسأبين مفهوم  الهداية الاختيارية والهداية الإجبارية وأحكامها الشرعية في القرآن.

أولا: الهداية الإختيارية  للإنسان في الدنيا فقط

الهداية الاختيارية هي اتباع الانسان هدي الله تعالى وهو القرآن عن طواعية واقتناع واختيار دون اكراه من أحد. ومن لم يتبع هدى الله القرآن فإنه في ضلالة وغير مهتدي إلى صراط  الله تعالى المستقيم المؤدي إلى لقاء الله عز وجل والجنة بل المخالف لحدود وأحكام القرآن يكون في ضلالة وفي صراط مؤدي إلى الجحيم  ومبعد عن لقاء الله عز وجل و ممنوع من رؤية ذاته العظيمة بعد البعث في الآخرة. الله تعالى لم يفرض على الانسان  الإيمان واتباع هداه ولم يجبره على الالتزام بأحكام وحدود القرآن كرها. بل ترك له حرية  الاختيار بين الإيمان والكفر وبين اتباع القرآن ومخالفته ولكن خصص الجزاء لاختيار الانسان حيث خصص له الجنة  مقابل إيمانه و التزامه بأحكام وحدود القرآن  ورحمته في الدنيا والآخرة .وخصص لمن يكفر ويخالف شرعه عذاب الدنيا وجهنم بالأخرة. والأدلة كثيرة منها: البقرة 256 ” لا إكراه في الدين” ولقمان 24″ ومن كفر فلا يحزنك كفره  إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور”والروم 44″ من كفر فعليه كفره  ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون” والنمل 92″ وأن اتلو  القرآن  فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ” والزمر 41 ” إنا  أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها “.فالإنسان هو الذي يختار الهداية أي اتباع القرآن والإيمان أو الضلالة والإعراض عن القرآن و الكفر، فالأول في صراط الجنة والثاني في صراط الجحيم. لهذا قال تعالى في فصلت 46 ” من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ” الأعراف 35-36 و الأنعام 48-49 و فصلت 40 ” اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصيرا” والكهف 29 ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ” و الشمس 7-11 ” ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها “. ومن الأدلة أيضا الأنعام 82 ” إن الذين  آمنوا  ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ” فالمؤمن الذي لم يخالف حدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية هو المهتدي  أي التابع لهدى الله تعالى القرآن والذي هو في صراط الله المستقيم وهذا الحكم الشرعي تؤيده سورة طه 82″ وإني لغفار لمن تاب وأمن وعمل صالحا ثم اهتدى” فكلمة اهتدى تدل على أن التائب قد أمن وعمل صالحا واتبع هدى الله وهو القرآن. ولذلك يغفر الله تعالى ذنوبه و يبدلها بالحسنات في كتاب أعماله. وتؤيده أيضا آل عمران 101″  ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم”. فلا يمكن عمليا الإعتصام بالله تعالى لأنه مستوى  على العرش فوق السماء السابعة. و لكن المعنى هو من يلتزم بحدود وأحكام القرآن يكون في صراط الله المستقيم  وينال حماية وأمن الله عز وجل ورحمته وجنته وتؤيد ذلك  آل عمران 103″ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” وحبل الله هو القرآن الذي يجب أن يتوحد حوله المسلمون ويلتزموا به. فالهداية الاختيارية يجب تحصينها من العوامل الخارجية المؤثرة والتي تصد عن سبيل الله وتخرج الإنسان من الهداية إلى الضلالة وهي تأثير القلب المريض  نفسانيا. و النفس الأمارة بالسوء بالإضافة إلى إغواء  الشياطين وأوليائهم الكفار والمنافقين  والدليل الجاثية 23 ” أفرأيت من اتخذ إلالهه هواه” و الأنعام 56 ” قل إني نهيت أن أعبد الدين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ” فمن اتبع هوى النفس الأمارة بالسوء  وأعرض عن القرآن وهو هدى الله عز وجل فقد ضل أي خرج من صراط الله المستقيم ودخل  الصراط المؤدي به إلى عذاب الله والجحيم وقد حرم نفسه باختياره الضلالة من رحمة الله تعالى والحياة السعيدة في جنته ومن رؤية ذاته العظيمة. والشياطين وأولياؤهم يقومون بإغواء  الناس فإذا لم  تكن لهم عقيدة اسلامية صادقة وصحيحة فإنهم  يكونون ضحية لهم حيث يؤثرون عليهم ويضلونهم بعد أن كانوا مهتدين بهدي الله تعالى القرآن، والدليل الحج 3-4 “ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد.كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير”.والشعراء 96-99″ قالوا وهم فيها يختصمون تا الله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون”. واعلم أيها الانسان أن فترة العمل في الحياة الدنيا مؤقتة، لا تعوض نهائيا فمن لم يؤمن في الدنيا ولم يتبع هدى الله القرآن قد خسر الدنيا والآخرة. ولا يمكنه تعويض ذلك بالإيمان بعد البحث في الآخرة لأن المبعوث ينال جزاءه عن أعماله التي عملها في الدنيا.  والدليل الروم 56-57 “وقال الذين اوتوا العلم والإيمان، لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث. فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون. فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون.” والتحريم 7 ” يا ايها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم  إنما تجزون ما كنتم تعملون” فلا ينفع الإيمان  في الآخرة  إذا لم يكن قد حصل في الدنيا باختيار  وعن طواعية وقد تجسد فعلا في العمل الصالح والتقوى حتى الموت. والدليل الأنعام 158 ” هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا”. والنساء18 والسجدة 22 ” ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون” و غافر 84-85 “فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافون”. فسارعوا أيها الناس إلى الهداية الاختيارية في الدنيا والإيمان  الصادق والتقوى قبل أن تضيع فرصة الامتحان في الدنيا. إن لجنة امتحان  البكالوريا  مثلا لا تسمح بدخول المترشح المتأخر إلى قاعة الامتحان بعد مرور الوقت المسموح به قانونيا كذلك عندما يموت الإنسان  يقفل كتاب أعماله التي يحاسب عليها في الآخرة.

ثانيا: الهداية الاجبارية لله وحده في الدنيا والآخرة.

الهداية الاجبارية هداية من الله تعالى الذي يقررها حسب عمل الانسان في الدنيا. الله عز وجل قادر على التأثير على قلب الانسان ودورته الدموية وعلى تفكيره.كما أن الله تعالى ينفذ تصرفه في الانسان مباشرة أو بواسطة ملاكته  الذين ينفدون أوامره وغيرهم من جنوده التي لا يعلمها إلا هو. والدليل إبراهيم 27 ” يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة “. و الليل 5-7 ” فأما من أعطى واتقى وصدق  بالحسنى فسنيسره لليسرى” والطلاق 2-3 ” ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب” هناك آيات كثيرة في القرآن مؤكدة ومبنية لهذا الدليل الشمس 7-10 النازعات 37-41 الأعراف 35-36 البقرة 38-39 وهناك هداية الله تعالى الاجبارية في الآخرة بعد البعث وهي تابعة لما في كتاب أعمال المبعوثين  حتما وحسب  ما ظهر في ميزان أعمالهم. وسأبين الأحكام الشرعية المتعلقة بهداية الله في الدنيا وهدايته في الآخرة.

أ-هداية الله تعالى للناس في الدنيا

الله تعالى خالق الكون  وما فيه ويدبر أموره. وهو أعلم بما خلق وبأسباب جميع  الظواهر التي خلقها. وهو سبحانه وتعالى قادر على التصرف  في الإنسان كيف يشاء. وهو يعلم من اهتدى ومن ضل عن شرعه وهداه. ويضل من يشاء ويهدي من يشاء والدليل الأنعام 149″ قل  فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين”  والسجدة 13″ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين” ويونس99″ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا” والأعراف 24 “واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه” والحجر 47 ” ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين” هذه الآيات دلت أحكامها الشرعية على أن الله تعالى قادر على هداية من يشاء من عباده فهو قادر على جعل الإنسان متبعا للقرآن ومهتديا في الدنيا ولكن الله ترك حرية  الهداية  في الدنيا للإنسان في إطار الابتلاء والامتحان والاختيار الذي خصص له الجزاء في الآخرة والدليل الكهف 29 “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” و سورة فصلت 40 “اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون خبير” ومن الأدلة على قدرة الله تعالى على هداية الناس في الدنيا هدايته للأنبيااء والرسل وتمكينهم من فهم شرائعه وكتبه المنزلة للناس. وقد هداهم وجعلهم متبعين لهداه أي شرائعه وكتبه المنزلة للناس. فأعطوا  بذلك المثل المجسد للدعوة إلى الله تعالى. وقد وفر لهم الله تعالى الأموال ومكنهم  بقدرته من السلطة والحكم والحماية من البشر، لتبليغ الرسالات السماوية. ومن الأدلة ما يلي: الأنبياء51″ ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين” والنحل 120″ إن ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم” والأنبياء 74″ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث” وقال تعالى عن نبيه داود وسليمان في الأنبياء 79″ وكلا آتينا حكما وعلما” والصافات 114-118″ ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم” وقال الله تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام يوسف 22″ ولما بلغ أشده أتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين” والأنعام 89 “أولئك الذين آتيانهم  الكتاب  والحكم والنبوة” و قال موسى عليه السلام لقومه عندما طاردهم فرعون بجنوده وهم أمام ضفة البحر الأحمر في الشعراء 62 “إن معي ربي سيهديني” وفعلا جعل له الله طريقا يابسا في البحر لاجتيازه وأغرق فرعون وجنوده. وقال الله تعالى عن رسوله محمد عليه وعلى كل الرسل صلاة الله وسلامه في الضحى 6-8 ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا  فهدى ووجدك عائلا فأغنى” والأنعام 161″ قل  إنني  هداني ربي إلى صراط  مستقيم” فهداية الله تعالى للرسل بهداه أي شرائعه والتي بلغوها للناس وعملوا بأحكامها وحدودها دليل على قدرة الله تعالى المطلقة على أنه يهدي من يشاء في الدنيا ولكنه  قرر وقضى بأن كل إنسان له حرية في اتباع هدى الله أو عدم اتباعه وينال الجزاء المقابل لعمله وذلك في إطار الامتحان والابتلاء الذي أراده الله تعالى للناس في الدنيا. وقد أكد لنا الله تعالى ذلك في الزمر 57 “أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين” والزمر 59 “بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين” فهذا تأكيد من الله تعالى على أنه ترك للإنسان حرية الهداية أو الضلالة في الدنيا.

ب: هداية الله تعالى الإجبارية في الأخرة

الحياة الدنيا مؤقتة لأن كل إنسان فيها لابد أن يموت حتما مهما طال عمره، وقد خلقه الله تعالى لإعمار الأرض ولعبادته. فهو في حالة ابتلاء وامتحان واختبار مادته القرآن. الله تعالى يراقب أعمال كل انسان والملائكة تسجلها في كتابه بأمر من الله تعالى. الجزاء عن أعمال الدنيا والمكافأة النهائية تكون في الآخرة بعد البعث  والله تعالى هو الذي يقرر الجزاء بناء على ما في كتاب كل مبعوث. والجزاء في الآخرة عن أعمال الدنيا نوعان لاثالث لهما أبدا. فمن اتبع القرآن واهتدى بهداه والتزم بحدوده وأحكامه الشرعية يقرر له الله تعالى رحمته وأمنه ولقاءه والكلام المباشر معه ورؤية ذاته العظيمة والحياة الدائمة الأبدية في الجنة  مع توفر كل ما يحتاج إليه ويحقق له السعادة الأبدية الدائمة. ومن أعرض عن القرآن وخالف حدوده ولم يلتزم  بها ولو ساهم في إعمار الأرض وجمع الأموال الطائلة فإن مصيره عذاب الله تعالى والحياة الشاقة المؤلمة في جهنم. هذا القرار الاساسي والختامي الذي يقرره الله تعالى للمبعوثين حسب أعمالهم لا رجعة فيه وهو إجباري وملزم لكافة الناس. والملائكة هم الذين ينفذون أوامر الله تعالى في هذا الجزاء.الله تعالى يعلم ما في كتاب كل مبعوث والجزاء الذي يستحقه فإما الهداية إلى الجنة وإما الهداية إلى جهنم. أي إما أن يسوق الملائكة المبعوث بعد الحساب إلى الجنة وإما إلى جهنم حسب القرار الذي اتخذه الله تعالى  حسب كتاب  الأعمال وميزانها. وهذه هي الهداية الاجبارية. وهي اختصاص لله وحده  دون سواه من الرسل والملائكة والدليل الاعراف8-9″ الإسراء 13-14 الأنبياء47  ومن الأدلة على أن الله تعالى هو الذي يقرر الهداية للجنة أو الهداية لجهنم حسب الأعمال والميزان وأن الملائكة ينفذون هداية الله تعالى ما يلي: الحاقة 30-32 “فخذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ” والصافات 23 “فاهدوهم إلى صراط الجحيم”  فالملائكة بأمر من الله تعالى هم الذين يدخلون المستحقين لعذاب الله تعالى إلى جهنم  والمستحقين لرحمته الى الجنة الانعام117 الأعراف 156-157 وأحيلكم على بحث نشرته  في موقعي المذكور بالأنترنيت حول موضوع:  “المصير الحتمي لكل إنسان بعد موته كما بينه الله تعالى في القرآن” فهذا المصير الحتمي يحدده الله تعالى وحده بصفة إجبارية وملزمة. ولا يمكن لأحد الطعن فيه. بل الملائكة ينفذون قرارات الله تعالى بقوة وحتما ولكن الله تعالى لا يظلم أحدا أبدا. والأدلة كثيرة منها: الروم 9 ” فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” وق 29 ” ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد” ويس 54″ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون الا ما كنتم  تعملون” والنساء 40 إن الله لا يظلم مثقال  ذرة” الله تعالى يقرر هدايته الإجبارية في الآخرة لكل مبعوث بعدل مطلق ولا يظلم أحدا وذلك استنادا إلى عمله المسجل في كتابه.فالكفار والمنافقون الذين  لم يتوبوا وماتوا كفارا لا حساب لهم بل مصيرهم حتمي  هو جهنم. أما الذين توزن أعمالهم فإن ثقلت موازينهم فهم من أهل الجنة والذين خفت موازينهم فهم من أهل جهنم. ولكن الهداية الاجبارية للجنة أو جهنم قرار لله وحده ولابد حتما من مرور المحاسبين في الآخرة فوق الصراط وهو جسر يمر فوق جهنم .وبعد ذلك ينجو المستحقون للجنة فيجتازون امتحان الصراط بسلام وأمن بفضل هداية الله تعالى الاجبارية وتصرفه المباشر وبواسطة الملائكة. والدليلي مريم 71-72 “وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جتيا’ قد يتساءل الناس عن سبب مرور أصحاب الجنة فوق جسر جهنم فأقول بأن رؤيتهم لجهنم وعذابها يقنعهم بتقدير نعمة الله عليهم وهي النجاة من جهنم وعذابها والفوز بسعادة الجنة. والمستحقون لجهنم أي الذين خفت موازينهم اثناء الحساب  أمام الله تعالى يسقطون  في جهنم ولا يستطيعون النجاة منها. لهذا قال الله تعالى في آل عمران 185 “فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز” ويس 66-67 ” ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون” ويتعلق  الأمر بالستحقين  لجهنم الذين خفت موازينهم بعد الحساب. الله تعالى يمنعهم بتصرفه  وملائكته من اجتياز الصراط أي الجسر المقام فوق جهنم ولا ينجون منها مثل المؤمنين الصالحين المتقين الذين ثقلت موازينهم. هذه الإجراءات  حقيقية ودليل على هداية الله تعالى الإجبارية في الآخرة  إما إلى الجنة أو جهنم حسب أعمال الدنيا. ومن الأحكام الشرعية المؤكدة لذلك ما يلي: النساء 168-169″ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفرلهم ولا ليهديهم  طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها ابدا وكان ذلك على الله يسيرا” والنساء 175″ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم  في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما” والصراط المستقيم هو الطريق والسبيل المؤدي إلى لقاء الله تعالى والجنة.وهذه الآية تؤيدها المائدة 15،16 “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور  بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم” فالهداية الإجبارية للجنة خصصها الله تعالى لمن آمن بصدق وعمل  صالحا واتقى أي التزم بحدود وأحكام القرآن قولا وتحملا سرا وعلانية حتى الموت، وتؤيد النساء 175 سورة يونس 9″ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم  تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم” والنساء 66-68″ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تتبيتا. وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما. ولهديناهم صراطا مستقيما”. هذه الآيات حددت الشرط الاساسي للتمتع بهداية الله الإجبارية في الآخرة إلى صراط الجنة وهو طاعة الله تعالى في الدنيا والهداية الاختيارية للإنسان بهدى الله وهو القرآن.وقد أكد أصحاب الجنة التي دخلوا إليها بهداية الله تعالى مقابل إيمانهم الصادق وتقواهم في الدنيا هذه الحقيقة وذلك في آيات كثيرة منها الأعراف 43″ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم  الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا  لنهتدي  لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربا بالحق ونودوا  أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون”.فالمبعوثون عندما يكونون فوق الجسر المقام فوق جهنم لا يستطعون معرفة الطريق أي الصراط المستقيم المؤدي إلى لقاء الله تعالى والجنة . ولكن الله تعالى بقدرته وتصرفه المباشر وبواسطة جنوده وملائكته هو الذي يوجههم ويرشدهم ويهديهم  حتما إلى الصراط المستقيم إن كانوا مستحقين لرحمة الله عز وجل وجنته ورؤية ذاته العظيمة وذلك بإيمانهم الصادق وتقواهم وطاعتهم لله في الدنيا.

فتذكر أيها الإنسان في كل مكان وزمان مرورك فوق الصراط أو الجسر والممر المقام فوق جهنهم وأنت ترى لهيبها وعذابها وتكاد تسقط فيها. فبمن تستغيت لإنقاذك  من السقوط فيها. لا ينفعك المال الذي جمعته في الدنيا ولا المتاع الذي تمتعت فيها. و إنما ينقذك عملك الصالح والتقوى والتزامك في الدنيا بحدود وأحكام القرآن قولا وعملا سرا وعلانية حتى الموت لأن الله تعالى خصص هدايته لطريق الجنة للذين تقلت موازينهم يوم الحساب وكانوا في الدنيا مؤمنين صادقين متقين متبعين لهدى الله القرآن.

خاتــــــمة :

    بعد توضيح قواعد فهم القرآن بأمثلة تطبيقية وبيان الأساس الشرعي الذي يوجب معرفتها أطلب من كل إنسان في كل زمان و مكان قراءة هذا البحث وتدبره لفهم القرآن ومعرفة أحكامه الشرعية وحدوده وذلك من أجل الإلتزام بها للفوز برحمة الله تعالى والسعادة في الدنيا والآخرة والنجاة من عذابه وأطلب من كل إنسان تعلم لغة القرآن وهي العربية لفهمه مباشرة دون وسيط قد يكون كاذبا عمدا أو مخطئا عن غير قصد مما يساعد على اكتشاف الحقيقة واليقين والسلام على من اتبع الهدى والحمد لله رب العالمين.

Copyright 2024, All Rights Reserved